


لبناني لا عروبي، لا يمكنني أن أكون غير ذلك ولا أجد مصطلحًا أقرب إلى هويتي. وإذا كان هناك من قومية، فهي تنبع من كياني اللبناني. قضيتي هي الدفاع عن لبنان الذي حارب كل أشكال الإلغاء. لذلك يعود انتمائي لحزب "القوات اللبنانية" إلى إيماني بالقضية اللبنانية. أما فلسطين، وبعد الذي عاناه البلد خلال الحرب الأهلية، فلا أريدها أكثر من قضية إنسانية. اليوم غزة تحتل الاهتمامات اليومية لما لها من تأثير على لبنان، لأن فئة من اللبنانيين ملتصقة بالقضية الفلسطينية كمشروع سياسي. لكن هذه القضية لا تعبّر عن أهدافي ونضالي، ويربطني بأهلها ما يربطني بأي طفل أو امرأة في أفريقيا الجنوبية.
تابعت الحرب الإسرائيلية على غزة يومياً عبر ما تناقلته المواقع الإلكترونية، وشاركت في الأحاديث الدائرة في أوساطي الجامعية، معبّراً عن رأيي كرفاقي. أدين إسرائيل لأنها عدوّ محتلّ. صورة الأطفال الذين يموتون مؤذية جداً تعيد إلى الأذهان ذكرى الحروب ومآسيها، فالموت له لون واحد. مسار هذه الحرب واقع يفرض نفسه على الشاشات والاهتمامات السياسية حتى داخل الأحزاب، لما تحمله الأيام المقبلة من تداعيات على الأوضاع والسياسات.
أرفض ما يحصل في غزة من همجية وخراب، لكن غزة ليست قضيتي كلبناني، ولن أتمكن بأي طريقة من حل الخلافات السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كل ما يمكنني فعله هو تقديم مساعدات مادية ومعنوية. في الجامعات نظمت حملات مساعدة لأهالي غزة، كلٌ قدم ما يقدر عليه. في المواقع الإلكترونية زوايا للتعبير وتسجيل المواقف، لكن الحلول السياسية تقوم بها جهات ديبلوماسية في مجلس الأمن وغيره، وهذا ما تفعله الدول. "كلنا فلسطين" أو "كلنا غزة" لا تعبّر عني كلبناني. فالاعتصام لن يحل شيئاً وليس الطريقة المثلى لحل الوضع في غزة. يوم أردنا من الجيش السوري أن يخرج من لبنان تظاهرنا. كان السبيل الوحيد المتاح أمامنا لإسماع صوتنا، نحن الشباب اللبناني، هو التظاهر، لأنه المجال الأوسع لمطالبتنا بكياننا المستقل. الموضوع كان يعنينا دفاعاً عن وجودنا، لكننا لم نقم بأعمال شغب، ولقد نجح اعتصامنا. اعتصامات التضامن مع غزة تحولت إلى رمي حجارة على قوى الأمن اللبناني وتعدياً على الممتلكات وإطلاق شعارات تخدم أهدافاً سياسية.

في معظم هذه التظاهرات يروّج للتظاهر نصرةً لغزة، لكن المضمون يكون خارج ذلك. كيف يمكن لغزة أن تنتصر إذا اشتبكتُ أنا مع الأجهزة الأمنية اللبنانية، أو إذا نعتُّ الرئيس المصري بالخائن. يمكنني أن أعبر عن سخطي من المحتل. لكن التظاهرات أمام السفارة الأميركية كانت مؤذية، ورُددت فيها شعارات ضد رئيس الجمهورية مثل "بدنا نعود لأيامك يا لحود"، كأن الرئيس سليمان متواطئ في هذه الحرب، أو كأن الرئيس السابق كان سيمنع الحرب. لا يمكنني أن أشارك في ظروف كهذه تستغل لتسجيل نقاط سياسية ضد لبنان في موضوع يدور خارج حدوده.
"حماس" لا تريد من أحد أن يساعدها، من مصلحتها استمرار العملية العسكرية، لأن أي وقف لإطلاق النار يعني تراجع مشروعها السياسي. وهذا، لو حصل، سيُظهر أنها فشلت سياسياً ولم يبق من حل إلا بالعملية السلمية التي تقوم بها السلطة الفلسطينية. "حماس" مجبرة على إكمال العملية العسكرية حتى تحقيق انتصار وهمي على إسرائيل، لتؤكد لشعبها أن المقاومة العسكرية ناجحة. وقد يكون شعبها ملتصقاً بها عن عقيدة دينية، ولن يتخلى عنها أو يحاسبها على قرارات اتخذتها.
من المنطقي أن أكون ضد إقفال مقهى "ستاربكس" أو أي مؤسسة أخرى. لا أحد يملك هذا الحق طالما المقهى مفتوح وقائم وفق متطلبات القانون اللبناني. هؤلاء الشبان الذين أصرّوا على إقفال المقهى، رأيتهم متقنّعين بالكوفيات، وكانت ثيابهم من ماركات أجنبية، وهم يقودون سيارات أجنبية ويدخنون الـ"مارلبورو". يستخدمون الكمبيوتر المصنّع في دول الغرب ويريدون إقفال مقهى غربي لأنهم يريدون تسجيل نقطة ما. ماذا سينفع أهالي غزة إقفال مكان عام؟
مئتا مؤسسة إعلامية عربية وحّدت بثها، ما مكّنها من تقديم 200 مليون دولار و50 سيارة إسعاف لغزة. هكذا يكون التضامن.

الكوفية ظاهرة عادت وتفشت داخل المجتمع اللبناني، وخصوصاً بين الطلاب. إنها اليوم أشبه بصيحة عصرية، وازداد انتشارها بعد حرب غزة. لهذه الكوفية المرقطة زاوية في الذاكرة اللبنانية. فهي ترتبط بياسر عرفات وبحقبة أريد الخروج منها، تعيد صورة "الفدائي" وأخطائه الفردية وتجاوزاته ومعاناة اللبنانيين منه. إنها تلغي الصورة الإنسانية للفلسطيني وتستعيد صورته العسكرية التي أقامت دويلة فلسطينية استباحت الأرض اللبنانية ودولتها. لا يمكنني أن أوافق أن تتخذ القضية الفلسطينية لبنان معبراً لها. يكفي ما حصل في الحرب الأهلية. لا أريد العودة إلى الفكرة التي كانت متفشية في بداية السبعينات بين "الوطني" و"الانعزالي"، لذلك أجدني على مسافة من هذه التظاهرات.
الجميع يعرف أن أميركا داعمة لإسرائيل، لكنها أيضاً دعمت لبنان في مسائل عدة. منها مساعدات للجيش اللبناني، باريس 3، القرارات الدولية... وهي لعبت دوراً في إخراج الجيش السوري من الأراضي اللبنانية، هذه ضريبة العلاقات الدبلوماسية. حتى اجتماعياً هناك تقارب بين مجتمعنا والمجتمع الأميركي التواق للديمقراطية والحرية.
متى تدخلت أميركا مباشرة وبشكل سلبي في الشؤون اللبنانية يمكن التظاهر أمام سفارتها ضد ما يحصل في لبنان.
علّقوا حذاءً ضخماً على سياج السفارة المصرية، قامت القوى الأمنية بإزالته أكثر من مرة، لكنهم عادوا ووضعوه. مصر دولة عربية حملت قضايا العرب منذ الاستقلال. لذلك أرى أن التعامل معها على هذا النحو أمر سخيف. لكن الأسوأ في الأمر أن الشعب أصبح بحاجة إلى أحذية ليستعيد موقفه، وهذه مشكلة كبيرة. لو طلب مني أن أرمي حذاءً (رغم أن الفكرة عمل غير حضاري أبداً) لرميته في وجه سوريا أو إسرائيل، لأن هاتين الدولتين أجرمتا بحق الشعب اللبناني، احتلتا لبنان واغتصبتا أرضه وشعبه.
أساند غزة إنسانياُ لأنها تتعرّض للمجازر. أقيم قداساً على راحة نفس المدنيين الذين سقطوا، أو أقيم معرض صور، أطالب جمعيات حقوق الإنسان بمقاضاة إسرائيل، أكتب مقالاً. لكنني لا أؤمن بمصير أمة عربية واحدة وتوحدها قضية فلسطين. ما يعنيني هو ما يحصل في لبنان، لذلك فالحل الأفضل بنظري هو الحياد الدائم في كل القضايا. كشاب لبناني، لا يمكن أن يُطلب مني غير ذلك. لدي الكثير لأهتم به أكثر من اجتياح سفارة أو ضرب عسكري لبناني أو حتى إقفال أحد المقاهي.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=76317#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق