

التعرف إلى امرأة مقاتلة أمر لا يتم في أحد صالونات الحلاقة أو محال التسوّق. فالقتال ليس وظيفة نسائية ولا يتماشى مع التنورة والكعب العالي. يخيّل إليك لوهلة، أنك ستقابل امرأة ضخمة البنية ذات ملامح قاسية تعيش في أحد المنازل الحزبية التي تعجّ بصور قائد ورفاق وأسلحة، إلى حد تشبيه الشقة بغرفة في ثكنة عسكرية ما. لكن اللقاء لم يكن بهذه الصعوبة، فالسيدة بعيدة عن كل ذلك اليوم، وقد رحّبت بفكرة اللقاء، ربما لرغبتها في الحديث عن ماضٍ غلّفه غبار الملاحقات.
شقراء تبهرك بقامتها الممشوقة نسبة إلى مقاييس النساء، شعر طويل مصفف وملابس صارخة الأنوثة. مع "الأهلا وسهلا" ترسم ابتسامة عريضة على وجهها وتعتذر عن الفوضى المزروعة في إحدى الغرف بسبب وضع زينة الاعياد في منزل تفوح منه رائحة امرأة تجيد الاهتمام بالتفاصيل، ثم لا تلبث أن تدخل الجوّ وتشرع باستعراض حسن ضيافتها لتكتمل الزيارة على الطريقة اللبنانية.

كمن يستحضر قصيدة محببة إليه، تعود المرأة بالذاكرة عشرين عاماً، تشعّ عيناها وتبدأ برواية تجربتها كأنها حصلت البارحة. كانت طالبة في سنتها الجامعية الأولى عام 1989. لم تكن لتفكّر يوماً في القتال لو لم يتحدث أحد الضباط القواتيين عن دورة جديدة يتم الإعداد لها سيفتح فيها المجال لمشاركة النساء. كانت المرة الأولى التي تُنظم فيها دورة مشاة مختلطة داخل حزب القوات اللبنانية. غالباً ما كان الرجال يستأثرون بهذه المواقع القتالية وتبقى للنساء للوظائف الإدارية. الفكرة الجديدة أثارت اهتمامها، فهذا العمل الاستثنائي يرافقه شغف بالمغامرة. لم تنتظر كثيراً حتى فاتحت أخوتها بالأمر، وعلى الرغم من أن رصيد "القوات" كبير في عائلتها إلا أن التشجيع كان خجولاً إلى حد ما. لم يكن مألوفاً أن تنتقل فتاة من دراستها الجامعية إلى دورة قتال، وإن كان ذلك من أجل "حماية الكيان المسيحي".
الدوافع كانت متعددة عندها، أهمها تثبيت وجود امرأة أرادت أن تختلف عن محيطها، والتألق في الميدان العسكري شكل تحدياً لأنوثتها. الدافع الآخر كان مسيحياً لأن حزب "القوات" شكل الحامي الأول للمسيحيين في وقتها، وكان انتماء تربت عليه منذ الصغر. أما الدافع الثالث فكان احتلال مكانة ما في عائلتها، فأخوتها انخرطوا في حزب القوات ضمن وظائف إدارية، لذلك صورة ضابطة في لباس عسكري زيتي لم تكن لتقاوم بسهولة. فكرة اختلطت في داخلها كإنجاز يحمل مغامرة خارجة عن المألوف. وهكذا وجدت نفسها أمام لجنة تقدم طلب انتسابها.
امتحانات الدخول توزعت بين خطية، طبية، نفسية ورياضية، تمكنت من اجتيازها بكفاءة. لم يكن هناك مواصفات معينة كطول ووزن محددين. وبعد اجتياز الامتحانات مثلت أمام لجنة عرفت فيما بعد أن فؤاد مالك كان أحد أعضائها. أما الوجوه الأخرى فسرعان ما أصبحت جزءاً من يومياتها. في خريف 1989، سبع فتيات وسبعة عشر شاباً التحقوا في معهد غوسطا. مبنى خصص لتدريب التلامذة الضباط في القوّات اللبنانية، في دورة مدتها ثلاث سنوات دراسية (تسعة أشهر للسنة الواحدة) حيث اشتركوا في أنواع النشاطات كافة، ما عدا المنامة حيث خصص لكل من الجنسين مبنى خاص به.

تضحك السيدة مرددة عبارة "الجحيم" وهي المرحلة الأولى من التدريب التي تمتد أربعين يوماً متواصلة من التدريب القاسي والمستمر. الزيارات والاتصالات الهاتفية ممنوعة، والتمارين الرياضية شرط الاستمرار والبقاء.. "تأهب، انبطح، قف مكانك.." عبارات وجب أن تعتادها، كما الوقوف ساعات في الشمس من دون حراك أو كلام. وحلقة الوحل عندما يتبلل الجندي بالماء ثم يغطس في حفرة موحلة حيث عليه أن يمارس التمارين الرياضية. تتذكر الأربعين يوماً وكأنها تستمتع بإنجازها. كانت تتهرب أحياناً من وضع الوحل في فمها بدهن أسنانها بالشوكولا وتصنّع ابتسامة عريضة تظهر امتثالها للأمر برحابة صدر. حياة نظامية ومعايير قاسية، جدية مفرطة وعقوبات كان عليها تنفيذها من دون أي اعتراض، رغم كل هذه القيود بقي جو الخدمة مرحاً ومكاناً مناسباً لإقامة صداقات استمرت حتى اليوم بين رفاق قدامى جمعهم حمل البندقية.
كانت أصغر فتاة في دورتها. وعندما نسألها عن اللحظات التي ذكّرتها بأنها امرأة، تخبر عن اليوم الذي أجبرت فيه على قصّ شعرها الطويل. فالحياة العسكرية لا تحتمل تضييع الوقت في غسل شعر طويل. "حزنت عندما رأيت خصل شعري تهوي أرضاَ، كأن جزءاً مني سقط.. بعدها التفتّ لأجد نفسي محاطة بدزينة من الرؤوس المتشابهة، لم أستطع التمييز بين رفيقاتي، كنا على هيئة واحدة، كما لو كنّا نقف عاريات ". ومن الطقوس التي مورست عليها كونها امرأة، تلك النظرة المتعالية من الرجل الذي يغتاظ من وجود أنثى تنافسه. وكيف إذا كانت المرأة سباقة في تمارين الركض أو المعدة أو الرماية. لم يكن هناك استثناء في التمارين الرياضية والعسكرية، على الرغم من أن الرجال كان عليهم حمل الأسلحة الثقيلة في المناورات، بسبب وزنها الثقيل.
البزة العسكرية، الخوذة، الدرع والجعبة التي تزن كثيراً، أمور أشبه بفولكلور يومي لتلامذة معهد غوسطا، وهي مختلفة عن "الجينز" والحقيبة النسائية. وفي الاستنفارات الليلية المفاجئة كان عليها ارتداء "البدلة والرينجر" والتأهب حاملة سلاحها خلال ثلاثين ثانية، وإلا عوقبت. اليوم الوحيد الذي كان للراحة هو اليوم الأول من الدورة الشهرية، وقد ناضلت هي ورفيقاتها للحصول عليه. فالضباط المسؤولون، وكلهم رجال، لم يفهموا في بادئ الأمر حساسية هذه الحالة. وعندما تستعيد اليوم صورة المسؤولين في الدورة، تتذكر أن قيادة الجيش اللبناني يومها قد عينت ضباطاً لتدريب المشاركين في هذه الدورة التي اعتبرت من الدورات الناجحة، ما شجّع الجيش اللبناني على تنظيم دورة إدارية بعد ذلك، كانت الأولى التي استقبلت فيها نساءً.
التمويه كان تمريناً هو الآخر. كان عليهم القيام بأي شيء لإخفاء ملامحهم. دهن الوجه بالفحم الأسود وزيت السيارات المحروق والوحل، وغالباً ما كانت هذه الخلطات تترك بقعاً سوداء على البشرة وتحت الأظافر. كانت تعرف أنها حياة أخرى، صارمة في كثير من الأحيان، لكنها كانت خياراً لا يمكن التراجع عنه في هذا المكان المعزول عن العالم. خيار مصحوب بعقيدة ودفاع عن قضية وجد فيها هؤلاء هوية منشودة منذ زمن. "لم نملك وقتاً خاصاً بنا، ولكنها كانت أياماً سعيدة وتمثل تحدياً في أن نكون ضباطاً، خصوصاً نحن النساء. فعبارة ضابط بالقوات كانت كفيلة بمحو كل ما ضقنا به ذرعاً".
إضافة إلى التمارين الرياضية والعسكرية، كان على الطالب حضور صفوف مواد مدنية كأي اختصاص جامعي آخر، وكانت الحصص موزعة بين تاريخ، جغرافيا، علوم سياسية ودينية. وأي مخالِف يعاقب بتمارين رياضية أو ست ساعات حجز. وعندما يصل عدد الحجوزات إلى سبعة يسجن الضابط المخالف وتوضع نقطة سوداء في سجله.
تضحك عندما تخبر عن مخالفاتها، وتعترف بأنها كانت أكثر المشاغبات، لم تتمكن من منع نفسها من الضحك أو الثرثرة عند الوقوف في الصف. كانت تتفق مع صديقاتها على حيل كثيرة. إحداهن مثلاً كانت تملك صوتاً جهورياً يشبه صوت الرجال، كانت تتصل بغرفة الرجال منتحلة شخصية ضابط مسؤول، وتلقي عليهم أوامر وتعليمات مفاجئة يمتثلون لها من دون أي نقاش. وعند المخالفة كانت التمارين الرياضية أنسب عقاب. "كنت أقوم بـ100 push-up أو 200 تمرين معدة، حتى إن المدرّب كان يملّ من العد". حتى اليوم ما زالت تحتفظ برشاقتها وبنيتها الجيدة، تقوم بالتمارين الرياضية بسهولة نسبة إلى نساء في مثل سنّها.
وفي زحمة الأخبار التي تنتظر دورها، توقفت لتخبر أنها تعرّفت إلى زوجها في الدورة، وكأن هذا الحدث كان الأجدر أن يكون في أول اللائحة. كان طالباً في معهد غوسطا هو الآخر، وأجمل الأوقات كانت عندما يذكر إسما عائلتيهما في المجموعة نفسها للقيام بمناورة ما. أما لقاءاتهما فكانت تتم في "بيت الجندي" بعد الساعة الثامنة مساء، وهو كافتيريا مزودة بتلفزيون، يرتادها التلامذة الضباط بعد الانتهاء من الصفوف القتالية والدراسية. صالة صغيرة تصلح للأحاديث ومشاهدة الأخبار وشرب فنجان قهوة قبل أن يحين موعد النوم عند العاشرة. أما اللحظات التي كانت تعطي دفعاً وتملأ فراغاً عميقاً فكانت زيارات "الحكيم" إلى المعهد. فالدورة كانت التجربة الأولى في تدريب النساء، و"الحكيم" علّق آمالاً كثيرة عليها واهتم بمتابعتها. "كان يزورنا، وبعد أن يلقي كلمته نبدأ بطرح الأسئلة التي لا تنتهي، والمتعلقة كلها بتثبيت الوجود ".

لم تكن الدورة قد انتهت بعد حين اندلعت "حرب الإلغاء" بين "القوات" والجيش اللبناني، فأرسل قسم من ضباط "القوات" إلى منطقة الدورة عند بدء الإشتباكات في 14 شباط 1988 والقسم الآخر إلى عجلتون حيث جرى إطلاق النار من دون إشتباك مباشر. لكن التجربة الحقيقية والأصعب بالنسبة إلى هؤلاء التلامذة الذين لم يختبروا أي معركة حقيقية، كانت معركة القليعات التي انتهت بسقوط الجبهة بيد الجيش اللبناني وأسر عناصر "القوات". لم تكن هذه الحرب محقّة في نظر هؤلاء، رفضوا إلغاءهم بهذه السهولة. كانوا مؤمنين بقضيتهم وتاريخهم الحافل بالتضحيات لحماية لبنان ومسيحييه من الزوال. كانت معركة القليعات صفعةً قاسيةً لهم، لم يعتقدوا أن ساعة قد تأتي لمواجهة دبابات الجيش اللبناني، كانت حربًا بالغة الصعوبة لأن خصمهم هذه المرة لا يصنف في خانة الأعداء.
"كنت نائمة في الساعتين المخصصتين لتبادل الحرس الليلي في القليعات، وإذا بي أستفيق على صوت قائد المجموعة يطلب منا إخلاء الموقع بسرعة. كان المكان معتماً للغاية وصوت القذائف بدا متسارعاً أكثر من ذي قبل. لشدة الخوف والارتباك خرجنا جميعاً من دون أسلحتنا. انتبهت إلى الخطأ الذي ارتكبته، فعدت أدراجي إلى المستودع لأخذ سلاحي لكنني عندما خرجت لم أجد أحداً من رفاقي ولم أعرف حتى الجهة التي سلكوها. قررت الالتحاق بالرفاق الذين على الجبهة، ورغم أن قراراً كهذا كان يحتاج إلى جرأة كبيرة، إلا أنني وجدته الأنسب حينها، وعندما أسرعت باحثةً عن الرفاق، كان الموقع قد سقط بيد الجيش، ثم بدأت موجة الاعتقالات".
"في بادئ الأمر لم يعرفوا أني فتاة، فانهالوا عليّ ضرباً كالآخرين مركّزين ضرباتهم على وجهي وركبتيّ. كان الدم يسيل من أنفي وفمي غزيراً. طعم الدم اللزج كان غريباً، لم أستطع الرؤية بوضوح، حفظت ملامح أول جندي شرع بالضرب، أما الباقون فلم أتمكن من التركيز عليهم. كنت أتمايل وأعد الضربات واحدة تلو أخرى. مجموعة جنود يصرخون بي مطلقين شعارات غضب ويتعمّدون ركلي بكل قوتهم، وعندما عرفوا أنني فتاة، توقفوا عن ضربي. كنت في حالة سيئة، لم أستطع تحريك فكّي ولا الوقوف منتصبة. جرّوني ووضعوني في "الريو" وبعدها اعتقلت واحداً وعشرين يوماً في سجن تحت الأرض في مبنى وزارة الدفاع".
عندما بلغت هذه المحطة في بوحها، اختفى فجأة بريق عينيها. فتجربة القليعات كانت حقيقية إلى حد الألم. سقطت الجبهة بيد الجيش اللبناني، وسقطت هي معتقلة في غرفة ضيقة تحت الأرض في وزارة الدفاع. زنزانة لا سرير فيها، تتوسطها لمبة تبقى مضاءة ليلاً نهاراً، وطعام لا يأتي إلا مرة كل 24 ساعة. المعاملة كانت سيئة في ضيافة ما يعرف لدى الشباب بـ"بيت خالتي". ورغم أن الضرب كان قد توقف، لكنها لم تتمكن من تحريك فكيّها لأيام عدة، ولا حتى الوقوف على ركبتها التي تورّمت كثيراً بسبب الركل. التحقيقات تتالت منذ اليوم الأول وعجّت بأسئلة عن أسماء مسؤولين ومواقع ومعلومات. لم يتمكنوا من معرفة شيء منها، كما أكدت، ولكنها لم تكن إلا رقماً سيق مع عدد كاف من شباب استجوبوا لأشهر عدة. تخللت "الإقامة" في وزارة الدفاع زيارة للصليب الأحمر اللبناني، نقل رجاله خلالها معلومات لأهالي المعتقلين بعد تزويدهم بعنوان كل موقوف.
"21 يوماً في هذه الحفرة، كنت أشبه بجرذ بدأ يعتاد قناته الجديدة. وحيدة، لم أفعل شيئاً سوى التألم والرد على الأسئلة ذاتها. لم أعرف الليل من النهار، فالغرفة بقيت مضاءة حتى الغثيان. كنت أروّض ذاتي على هذا المكان الذي أفقه مرحاض أرضي متسخ. لكن بعد 21 يوماً أطلق سراحي، وعرفت لاحقاً أن اللجنة المفاوضة بطلب من "الحكيم"، فاوضت على مبادلتي بثلاثة أسرى من الجيش اللبناني، من بينهم نقيب. يوم علمت بالمفاوضة شعرت بفرح خجلت من التعبير عنه، لكنه كان يضرب بقوة في داخلي. كثيرون من الرفاق ظلوا في الأسر، وللأسف فرحت بهذا التمييز، وفرحت أكثر لأن ثمني كان غالياً ".

رغم أن الإفراج جاء مشروطاً بعدم الالتحاق مجدداً بصفوف "القوات اللبنانية"، إلا أنها عادت والتحقت بمركز للقوات في ذوق مصبح، ثم تسلّمت إمرة حاجز نهر الكلب. استمرت الخدمة في نهر الكلب حتى انتهاء "حرب الإلغاء". بعدها استكملت الدورة في غوسطا إلى أن تخرجت وقبلت ببقائها في المعهد ككادر مسؤول عن دورة مشاة أخرى. ثلاث سنوات، تخللها حب وقتال، سقوط جبهة واعتقال، بعد كل هذا انتقلت من تلميذ ضابط إلى ضابط انضباط مسؤول عن المخالفات التي يرتكبها الملتحقون الجدد. هي المخالفات نفسها التي كانت تقوم بها عندما كانت تلميذة، والنظرة الممتعضة نفسها التي رأتها في عيون زملائها، شعرت بها مجدداً بسبب انزعاج الرجال لأن المسؤول عن معاقبتهم كان امرأة تكثر من العقوبات، سواء على سرير غير مرتب، أو ذقن غير حليقة، أو قفل غير محكم الإغلاق. هذه وغيرها كانت عناوين لعبارة "حجز ست ساعات".

عامان في غوسطا ومن بعدها نُقلت إلى غدراس أواخر عام 1992، إلى مبنى "الحكيم" حيث بقيت حتى اعتُقل وحُلّ الحزب. وهذه المرة أيضاً، نالت نصيبها من الاعتقال ككل الذين كانوا في المبنى يومها. وعلى الرغم من أن الاعتقال دام يومين فقط، إلا أن التحقيقات اتخذت بعداً "عالميا"ً كتهمة التعامل مع إسرائيل والتدرّب على يد ضباط إسرائيليين. وبعد الإفراج عنها لعدم ثبوت أي تهمة، بقيت "العين مفتوحة" عليها واستمرّ فرع مخابرات الجيش بالتردد إلى المنزل بعد أن صادر منه السلاح الفردي وأمتعة عسكرية. كل ما استطاعت الإحتفاظ به، عدا ذاكرتها الشخصية، كان بزّتها العسكرية التي خبأتها ذكرى لأيام غابرة. حل الحزب كان أشبه بانقطاع الأوكسيجين، الأحلام الكبيرة و"الكيان المسيحي" المحمي من كل شر، امبراطورية سقطت كمنزل من ورق.
"لم يكن السجن الانفرادي أو طعم الدم الذي سال من فمي يوم ضربت، أقسى من المرحلة التي تلت حلّ الحزب. يومها شعرت بأن الحياة توقفت. مرحلة يقف فيها المرء مصعوقاً ويقول بينه وبين نفسه: والآن ماذا؟ كيف تستعاد حياة لم تعد موجودة؟"
حُل حزب "القوات اللبنانية" وكان المعتقلون ينتظرون الإفراج عنهم. همهم الأول الخلاص من هذه الورطة والحفاظ على حياتهم. منهم من عاد إلى عائلته، لكنه ظلّ يتردد إلى وزارة الدفاع خاضعاً لتحقيقات شتى. وما إن سنحت الفرصة، هاجر منهم من ذاق قيد الاعتقال أعواماً. استعادة الحياة جاءت على دفعات. فوجود عمل لم يكن أمراً سهلاً بعد هذا الانقطاع. شركات عدة رفضت توظيف محازبين قدامى، نفوراً منهم أو إبعاداً للشبهات. أما من كان يتابع دراسته الجامعية قبل انخراطه في الحزب، فلم يتمكن من معاودة الدراسة بعد كل هذه الفترة. ولم يبق غير الوقت حليفاً لنسيان هذه التجارب القاسية.
المرأة صاحبة هذه الإعترافات، لم تتمكن من العودة إلى الجامعة، والزواج كان مؤجلاً حتى يجد رجلها عملاً، خصوصاً بعد أن أمضى، هو الآخر، فترة في الإعتقال. حتى أنهما قررا انتظار "الحكيم" كي يخرج من السجن ليكون وزوجته إشبيني العروسين. "طالت فترة الاعتقال وكنا قد فقدنا الأمل في خروج القائد، فتزوجنا بعد أن توظف زوجي في إحدى الشركات... وها أنا اليوم امرأة عادية... لا أكثر. أهتم بمنزلي وأولادي. لم أعد تلك المقاتلة التي تمشي على الحبال وتبرع في الرماية". اليوم وبعد خمسة عشر عاماً، ما زال الرفاق القدامى يجتمعون في لقاءات أجمل ما فيها استعادة لحظات من ماض مهما طال الزمان عليه، يبقى غنياً بأحداث تُحكى لتزرع دفئها في القلب.
وبهذه العادية "انطفأت" التماعة عينيها، كأنها استعادت دورها كسيدة منزل تجيد استقبال ضيوفها. وبغصّة أنهت قصتها متحسّرة على ماض لن يعود. "لو عاد بي الزمان إلى الوراء سأكرر التجربة ذاتها بكل ما حملته من خوف وألم.. لقد آمنت بقضية وبقائدها الذي أثبت أنه يستحق مكانته ببقائه 11 عاماً في المعتقل ... كان هناك زمن كنت فيه ضابطاً في القوات اللبنانية.. شرف استحققته يوماً. الحياة العسكرية حياة جماعة، الكل واحد في الفشل والنجاح، وقت له قيمة عالية ونظام يرهق الجميع. إنه التعاون بقالب قاس ينمّي الثقة بالنفس وتحديداً عند امرأة تفوقت في عالم خاص بالرجال".
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=76846#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق