13‏/12‏/2009

عــيـــن ثــالـــثـــــــــة

       ندخل. كلّنا اهتمام بنظرات الموجودين كيف تنسكب على مظهرنا. نشعر بهم يتفحّصون هندامنا، تسريحة شعرنا، شكل الحذاء. كل شيء تحت السيطرة. لقد دأبنا على مراعاة كل التفاصيل كي نشعر بارتياح عندما ندخل إلى مكان يعجّ بالناس. عندما تثقل النظرات نشعر فوراً بخطب ما، نسرع إلى المرآة لنختبر أناقتنا أو نختار أول عاكس زجاجي لنعاين الخلل. ثم نقف كأن كل شيء على ما يرام. واثقات الخطوة كنّ، قبل أن نعرف أن هناك عيناً ثالثة مزروعة في إحدى زوايا السقف تراقبنا عن كثب شديد، وتستطيع بسهولة أن تعرف لون عدساتنا اللاصقة، طلاء أظفارنا وكمية المساحيق المصروفة على ترتيبنا.


بدءاً من مسائل الأمن القومي وتهديد المصلحة العليا، وصولاً إلى مخالفة السير، من الأقمار الاصطناعية التي تبلغ تكلفتها مليارات الدولارات إلى كاميرا مثبتة يصل سعر الواحدة إلى عشرة آلاف ليرة لبنانية. نحن موضع مراقبة في معظم تفاصيل حياتنا. عند تقاطع الشارع حيث إشارة السير تتحكم بطريقنا، هناك من ينتظرنا عند كل مخالفة. على الكورنيش البحري نلتقي بصديقنا، والعدسات تخترق زجاج السيارة حتى ليلاً. في المصرف حيث ننتظر دورنا في الصف الطويل يعرفون كل شيء: اليوم، الساعة، المبلغ، كم دقيقة تسمّرنا أمام الصرّاف الآلي وأي مبلغ اخترنا، هل رمينا الإيصال أرضاً أم وضعناه في السلة الحديد المخصصة له.  

في المحال التجارية الكبرى، تستقبلنا عبارة "انتبه المكان مجهز بكاميرات مراقبة". نبدأ بالبحث عن مكان التجسس. هذه الكاميرا رمادية اللون مستطيلة، في هذا المكان هي دائرية بالأسود والأحمر. في الدكان الصغير آخر الشارع لم نلمحها، لكن صاحب المحل كتب بخط اليد "المكان مراقب يرجى عدم الإحراج". في مراكز التسوق، يدخلون معنا إلى غرفة تبديل الملابس. في المقاهي يعدّون لنا الساعات وكم كوباً من القهوة احتسينا، وكم رجلاً غازلنا، وهل كنا متعجرفات أم بادلناهم التحية. لم نعد ندخل إلى المرحاض خوفاً على ما تبقى من أجزاء خاصة مخفية. في المواقف المخصصة للعموم، يعرفون رقم لوحة السيارة. في المجمعات السكنية الكبيرة يرافقوننا إلى باب مضيفنا بهدوء. عندما نقصد منزل صديقتنا نتأكد من تسريحة الشعر لأن الزائر يخضع لاختبار عينيّ قبل أن تفتح البوابة الرئيسية ويدخل.

جارنا العجوز ثبّت كاميرا على الشرفة الأمامية تلتقط كل حركة منذ بداية الطريق. عليه أن يرسل الينا تقريره الخاص عن مواعيد خروجنا وقدومنا إلى المنزل، وبرفقة من. في النادي الرياضي كل شيء تحت الاختبار. الأولاد في ملعب المدرسة المجاورة والقاعات الكبيرة مراقبون. على أبواب الشركات وفي المصعد نتفادى أن نقضم أظفارنا خوفاً من أن يؤخذ انطباع خاطئ عنا، فنكتفي ببعض التحسينات على عجل كي لا نبدو مهووسات بشكلنا أمام الرجل الضخم المسمّر وراء الشاشة.

المدير في العمل يراقب أداءنا، طريقة جلوسنا إلى الكرسي، عدد المكالمات الهاتفية التي أجريناها، كم مرة ابتسمنا أو ضحكنا أو بقينا عابسات، وكم طالت فترة الاستراحة. ننتبه إلى طريقة الجلوس، فالجدران لها كل الحواس ونحن رقم له معادلات تؤرشف على اللوح الكبير. منذ زمن انكبّوا على التقاط لحظاتنا كالجواسيس، بحجة أنه إذا وقع مكروه فيجب معرف هوية الفاعل. منذ ذلك اليوم تحوّلنا أجساما متحرّكة تخزّنها ذاكرة عدسة مراقبة. نساء تلتهمنا عين ثالثة ورابعة وخامسة. ولا تشبع...

بقلم إليان بدر



هناك تعليقان (2):

  1. ولأخيراً تكلم أحدهم عن العيون التي تلاحقنا أينما ذهبنا

    ردحذف
  2. للأسف، هذا هو حالنا...
    وغالباً ما يكون الداعي للمراقبة "أمننا" و"سلامتنا" وفي سبيل ذلك تنتهك خصوصياتنا...

    والغريب، بدأنا نعتاد عليها وكأنها جزء أساسي (كأعمدة المباني) لا غنى عنها...

    الباص، القطار، البنك، السوبرماركت، ... أينما ذهبتُ مُراقب...

    ردحذف