
حين قررتُ التطوع في إسعاف الصليب الأحمر، كنت أحقق فكرة تساورني منذ أيام المدرسة، لكنني انتظرت أن أنهي دراستي الجامعية وأجد وظيفة. لم أتطوّع لأنني أردت أن أخدم الإنسانية، ولم أعرف حتى معنى العمل الإسعافي أو كيف يُنظر إليّ بصفتي قادرةً على إنقاذ ما تيسّر من حياة. العطاء والتضحية وعمل الخير كانت شعارات فضفاضة، وكلّ ما أردته يومها هو تجربة شيء مختلف عن العادية التي أقبع فيها.أردت أن أعيش تجربةً حياتية فيها كثير من التشويق، فحصلت عليها، لكنها جزءٌ من تجربة متكاملة فاقت توقعاتي وفهمي للحياة.

في المرحلة الأولى، بعد تقديم طلب الانتساب، خضعت لامتحان معلومات عامة تبعته مقابلة فردية سئلت فيها أسئلة شخصية وعامة، كان السؤال الأهم لماذا "اخترتِ التطوع في الصليب الأحمر؟" كانت إجابتي يومها أنني أريد مغامرة في حياتي، تحدياً خارج إطار العمل، حيث أستطيع أن أثبت وجودي، أردت دخول المنافسة من هذا الباب. قُبلت ثم خضعت لدورة إسعاف مدتها 3 أشهر أي ما يعادل ستين ساعة من الإسعافات الأولية. كنا مجموعة من 30 شخصاً والتجربة كانت قاسية ما يكفي لمعرفة قدرات كل منا وإستبعاد من أتى للتسلية أو التعارف.
بعد دورة الإسعاف أتت مرحلة الـ"Visa-1 "، وهي مخيّم تدريبي لمدة ثلاثة أيام، من يجتازها يحصل على تأشيرة دخول إلى مرحلة أخرى. كان المخيّم مجموعة تدريبات مختلفة وتطبيقاً ميدانياً على الأرض، تلتها مناورة قدمنا فيها الإسعافات الكاملة وتمرّنا على التعامل مع أناس حقيقيين بعد تحضير معنوي للتصرّف المناسب في حالات الطوارئ. أثناء المخيم فرض على المتطوعين ارتداء الدروع والخوذات طوال الوقت وطلب منهم إعادتها على حالٍ جيدة، كنوع من إعادة الأمانة في حالتها الحسنة.
بعد هذه المرحلة انخرطنا في عالم الإسعاف وحصلنا على لباسنا الأول: قميص مع مئزر أبيض عليه إشارة الصليب الأحمر. كان الأمر أشبه بثياب العيد لطفل صغير، مع شعور بالفخر في أننا استحققنا ذلك. بعضنا حاول إخفاء هذا الشعور لتفادي الإحراج، لكنه كان يغمرنا. بعد ذلك دخلنا مرحلة تجريبية لمدة سنة تقريباً، فتعلّمنا تلقّي النداءات الليلية، والمساعدة في الإسعافات الميدانية، واستخدام الجهاز، والمشاركة في تنظيم مهمات الفرق.
تتكوّن الفرقة في الصليب الأحمر عادة من سائق سيارة الإسعاف، متفقد أول وثان، والجميع في سباق دائم مع الوقت. رئيس المهمة هو الذي يوزّع الأدوار، والمتفقّد الأول للحالة يعاين المصاب ويقدّم لرئيس المهمة التشخيص كي يتخذ القرار المناسب والتدابير اللازمة. كان دوري في المرحلة الأولى مراقبة العمل والمشاركة كمتفقد ثان، إذا كانت هناك إصابات عدة.
الـ"Visa-2" مرحلة شكليات لا أكثر. يرتدي المسعف اللباس الأحمر ويحظى ببطاقة انتساب مغناطيسية تحمل معلومات عامة كاسمه وصورته، فئة الدم، اسم المركز والصفة. يُمنع استخدام البطاقة أو إظهارها، فلا تستخدم إلا للتعريف في حال وقوع حادثة ولتسهّل الدخول إلى المستشفيات. في هذه المرحلة يتم التدريب داخل المراكز وتوزّع المهمات على المسعفين الجدد، وتنظم محاضرات عن عمل المجموعة والقيادة والإدارة. بعدها يمكن للمتطوّع أن يتلقّى دورة تدريب كي يكون سائق سيارة إسعاف. تشمل هذه الدورة الفتيات أيضاً، يتخللها تمرين على القيادة والاعتياد على الطرق السيئة والتبدلات المناخية، وكذلك الاهتمام بصيانة السيارة ميكانيكياً والتعامل السريع مع أي طارئ. هناك أيضاً برنامج خاص بتفقد الآليات وتنظيفها والتأكد من جهوزيتها لأحوال الطوارئ.

يتألف الصليب الأحمر اللبناني من 12 قسماً، والإسعاف هو واجهتنا على العالم، حيث نتطوع كمسعفين من السادسة مساءً حتى السادة صباحاً وفق جدول يوزع فرق العمل على أيام الأسبوع. يختلف دوام الخدمة الليلية بين مركز وآخر، لكنه لا يقلّ عن مرة في الأسبوع. في كل مركز 5-6 فرق تتناوب على الخدمة. في لبنان 43 مركزاً للإسعاف، ومعظم المتطوعين طلاب جامعات أو موظفين.
في عالم المسعفين لا شروط فئوية أو طبقية، دينية أو مذهبية. الحد الأدنى التعليمي للمتطوعين هو الشهادة المتوسطة أو الثانوية، بحسب المنطقة. الفئة الغالبة من المسعفين تتراوح أعمارهم بين الـ18 وهو الحد الأدنى للتطوع والـ25 سنة، ينتمون إلى طبقات اجتماعية متفاوتة. بعض المراكز تكثر فيها العائلية، وخصوصاً المراكز الجبلية حيث بعض المسعفين القدامى يخدمون في المركز نفسه مع أولادهم أو أقاربهم، كأن في الأمر إدماناً أو توارثاً. وبعد الانتساب نادراً ما يترك المسعف خدمته إلا لظروف خاصة، كزواج أو عمل أو إنجاب. لكن الانخراط في هذا العالم يتحوّل في بعض الحالات حاجة ضرورية للحياة. كنت أداوم يومياً في المركز، كأنه منزلي الأول وليس الثاني، رغم أن قوانينه صارمة أكثر من تعليمات والدي، فصرت أشعر مع غيري من المتطوعين وأفهمهم، فجميعنا هدفنا واحد، يكفي نداء لنصبح كخلايا تقوم بالوظيفة نفسها.

المسعف في الصليب الأحمر هو شخص محبّ للحياة، يعرف قيمتها ويقدّر أهمية الإنقاذ. كنت أتعب أحياناً من وطأة الألم الذي أعانيه، إذ علي أن أكون جاهزة دائماً، بلا تذمّر أو تهرّب، متجنّبة الخلافات، فحياة الذين نحاول إنقاذهم أهم. لا أحاديث دينية أو سياسية ولا حتى التظاهر تضامناً مع أي قضية. كنت أدرك دائماً أنني تطوّعت بملء إرادتي، وأعرف سلفاً ماذا ينتظرني من إلتزامات ومهام. ربما أصبحت قاسيةً أكثر، إذا اعتدت مواجهة الوجع والبكاء والموت. وأكثر من ذلك، اعتدت رؤية الأشلاء والتأقلم مع رائحة الدم. رائحة تثير الغثيان إلى حد فقدان الوعي، لكنني غالباً ما تمالكت نفسي خجلاً من التقيؤ أمام المجتمعين حولي. والدم راود أحلامي ليالي كثيرة، حتى أصبح من يومياتي.
العلاقات في المركز كأي منظومة اجتماعية أخرى، تتنوع فيها التجارب. هناك أقارب، أصدقاء، متعارفون جدد، متحابون، متزوجون حديثاً، منهم من اقترن بمسعفة تعرّف إليها في المركز نفسه واستمرّا في عملهما التطوعي حتى بعد الزواج. في هذا المحيط، العلاقات تدوم أكثر وتتميز بالشفافية. التعارف حقيقي جداً، فـ12 ساعة متواصلة من العمل معاً، تعرّي الشخصية وتكشفها للآخرين وخصوصاً في الحالات الطارئة.

لكل مجتمع أجواءه ومناخاته، وكذلك داخل الصليب الأحمر اللبناني. فالوقوف دقيقة صمت على راحة نفس الشهداء الذين سقطوا، واجب قبل البدء بأي نشاط. يمنع على المسعفين وضع أيّ ملصقات على سياراتهم، كما يمنع إظهار اللباس الأحمر أو حقيبة الإسعاف الأولية اثناء القيادة، والمخالف يُعاقب بالتوقف عن العمل.
لكل مسعف لقبه الخاص، كي لا يتم التعرّض إليه ومعرفة وجهته أثناء الحرب، ولتسهيل تداول بعض الأسماء أو طول الإسم الثلاثي عند النداء. اللقب يختاره أحد المسعفين ويطلقه على رفيقه بعد ملاحظة شكل ما أو عادة لديه، أو حتى تصرفات خاصة. وبعد أن تكتمل الألقاب تصدر لائحة بها وتعلّق في المركز. "نقزة"، "عجق"، "33" بعض من الألقاب الكثيرة والمستغربة، لكنها تدل على شيء ما في أصحابها أو حامليها.
من أجمل التقاليد ما نفعله على طريقة الصليب الأحمر عندما يتزوّج أحد مسعفي المركز. نذهب جميعنا إلى العرس بلباسنا الأحمر وبسيارات الإسعاف. نواكب العريس ، وقسم منا يتجه إلى منزل العروس. بعد الزفاف نصطف في الخارج على الجانبين، كضباط المؤسسة العسكرية، فنشبك الحمّالات كقوس ليمرّ من تحته الزوجان ونعلّق شارة الصليب الأحمر على ثيابهما.
الأفراح تجمعنا كما الأحزان، فمراسم العزاء أشد مهابة، وخصوصاً إذا كان الفقيد أحد المسعفين. ما حصل في منطقة الشمال، يوم تشييع المسعفين اللذين سقطا في معركة نهر البارد سنة 2007، يحفر عميقاً في ذاكرة الصليب الأحمر. حضر المسعفون من كل المراكز حاملين أكاليلهم ودموعهم، وقفوا إلى جانب أهل الفقيد، حملوا جثمان رفيقهم، أقاموا عرساً له وبكوا. في هذه الحالة، بعض المراكز تحاول التعويض مادياً على أهل الفقيد، لكن الخسارة الحقيقية لا تعوّض.

يعاني جهاز الإسعاف أحياناً من بعض النقص في عدد السيارات، وهذا يثير احتجاج المتّصلين طلباً للنجدة، كلما تأخّر المسعف في الوصول. مؤسسة الصليب الأحمر اللبناني لا تملك مصادر تمويل كافية لكل تجهيزاتها. فالحملة التي تنظّم في شهر أيار هي المصدر الوحيد لجمع الأموال، إضافة إلى كثير من التبرّعات والتقدمات. وهذه معظمها يأتي على شكل تقديم مراكز جديدة. هناك امرأة توفيت وكتبت في وصيتها أن "الفيلا" تقدمة لمركز الصليب الأحمر في منطقتها. هناك من قدّم سيارة إسعاف كاملة التجهيز في الذكرى السنوية لوفاة زوجته، وبعض الأشخاص يقدمون طعاماً للمتطوعين.

من مهمات مسعفي الصليب الأحمر نقل المرضى إلى المنازل، بعد طلب من المستشفى. وفي كثير من الأوقات يتحوّل المركز إلى غرفة معاينات لتغيير ضمادات الجروح والحروق أو فكّ تجبيرة الجفصين، ومعظم هذه الزيارات ليليّة. من المبادئ الأساسية عدم قبول المسعف المال كبدل لخدماته، بل يذكر اسم المركز الذي يخدم فيه لمن يريد أن يقدّم هبة ما. عندما يصبح العطاء مشروطاً يذبل.
يتلقى المسعف النداء على رقم 140، وبعد تأكده من صحة البلاغ وهوية المتصل عبر كاشف الرقم، يقرع جرس الإنذار لتتحضر الفرقة وتتجه فوراً إلى مكان الحادث. بعد التوجه إلى المكان المحدد، يتلقى رئيس الفرقة التفاصيل اللازمة عبر جهاز اللاسلكي لتوزع المهمات، وعند وصولهم يعاين المسعفون الحالة. في حال حصول أي حادث ينبغي عدم الاقتراب من المصاب انتظاراً لقدوم الصليب الأحمر، وحتى القوى الأمنية تسهّل عملنا.
يعمل الصليب الأحمر حتى أثناء النزاعات المسلّحة، لإنقاذ المصابين ما أمكن. لكن وحيد والديه يمنع من العمل مسعفاً في الحرب. وهناك من يخاف، لذلك يسمح لأي مسعف ـ لأسباب خاصة أو عائلية ـ الامتناع عن أداء واجبه أثناء هذه الفترة لأنها حياته ولا أحد يمكنه أن يفرض عليه قراراً كهذا أو يستخف به. والرفاق في هذه الحال لا ينظرون إليه على أنه جبان. هناك حالات كثيرة سقط فيها مسعفون شهداء الواجب اثناء الحروب، وآخرها في مخيم نهر البارد. في حرب تموز 2006 كنا ننقل الأدوية إلى المناطق الجنوبية، لم نقترب كثيراً من الحدود. لقد شهدنا يومياً حالات ولادة مبكرة في تلك المرحلة التي كانت ظروف العمل فيها استثنائية.

الفترة الأولى من التطوع كانت مرهقة: السهر طوال الليل وملامسة الموت ببساطة، كأنه أمر اعتيادي. كان يعتريني شعور بالصدمة أكثر من الخوف حيال حوادث غير متوقعة، وحالات غريبة لم أسمع بها قط من قبل. شيئاً فشيئاً اعتدت الانصياع لعنصر المفاجأة وتأقلمت، بعدما انتميت إلى هذا العالم المستحدث. لا يمكن الحديث عن الخوف في معناه التقليدي. هو شعور لا بد منه، وخصوصاً في الحرب. لكن اثناء تلبية النداء أنسى نفسي ويطغى الاندفاع على أي إحساس آخر. لاحقاً، وأنا أعيد شريط الأحداث في ذاكرتي، يدهمني حزن واشمئزاز من فكرة الموت، فأروح أعاني كوابيس. ما زلت حتى الآن أضطرب عندما تسود حالة من الذعر بعد وقوع حادث سير أو إطلاق نار، فهذا يعيق تركيزي ويزيد من اضطرابي.
عاينت حالات بسيطة جداً: فتاة تعرّضت لانهيار عصبي لأن صديقها قرر الرحيل، مجنون لا يعي أنه يقوم بأعمال عنف، رجل عجوز لا يستطيع الذهاب إلى المستشفى بمفرده. ما زلت أذكر جيداً أول حالة وفاة. كان شاباً قد تعرّض لذبحة قلبية وهو يلعب كرة القدم. تلقينا يومها نداءً جاء فيه أن شاباً فقد وعيه أثناء اللعب. بعد سقوطه بوقت طويل، عندما عاينته، كان فاقداً للنبض. كانت صدمتي كبيرة، فالنداء خاطئ والحالة لم تقدّم لنا على أنها خطرة. حاولت كل ما بوسعي، رغم يقيني أن ذلك لن يجدي نفعاً. المشلكة الأكبر كانت إخبار الأهل الذين وصلوا متأخرين بعد نقل ابنهم إلى المستشفى، حيث لا أحد يملك حق إعلان الوفاة إلا الطبيب. أردت أن أخفي وجهي خجلاً من أهله. كان الموقف مؤلماً، ومن أشد اللحظات قسوة وعجزاً.
علّمتني التجربة أنه لا يمكنني التفاعل مع كل تجربة. فهذا الأمر يفوق التحمّل. الوقت جعلني أقسى وأكثر سيطرة على مشاعري. من اللحظات التي أثرت فيّ كثيراً حادث سير نجا فيه السائق لكن حبيبته لقيت حتفها أمام ناظريه. رآها ممددة على الطريق أمامه فراح يبكيها منتحباً. رؤيتنا إياه على هذه الحال كانت أقسى من رؤيتها ممدة بلا حراك. كانا وجهاً واحداً للحياة والموت في آن.
من أسوأ لياليّ كانت ليلة اضطراري إلى التفتيش عن أعضاء أحد الضحايا الذين لقوا حتفهم في حادث سير مروع. قانونياً لا يمكن للمسعف أن يعود بجثة من دون أعضائها الكاملة إلا في حالات معيّنة. فالإنسان يملك حق احترام جسده بعد الموت، وكان عليّ أن أحترم ذلك. حملت أعضاءً تفوح منها رائحة الموت. إنها أفظع الروائح التي تضرب في الأعماق وتشعرك بدوار.
في عالمي هذا، تعاطيت مع الموت والحياة التي زاد تعلّقي بها أكثر لأنني عايشت أهميتها. تعلمت أن أحترم الجميع وأن أطيع من هم أصغر أو أقل مني اجتماعياً. تعلّمت احترام القانون والالتزام بالتعاليم والمبادئ.
أخاف من لحظة ألبّي فيها نداء استغاثة لأحد معارفي، وتحديداً عائلتي. لا أتحمّل التفكير في الموضوع. هذا أسوأ ما يمكن أن أمر به. رأيت الموت بأشكال متعددة، لكن أن يكون له جسد ووجه مألوف، فهذا أمر يفوق تحمّلي.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=84886#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق