

هو من سكان منطقة الزعفرانية في بغداد، وهي منطقة مختلطة ذات أغلبية شيعية، حيث يحظى المسيحيون بهدوء نسبي. يفاجئ الشاب بحديثه عن عراق صدام حسين، كأنه حنين لماضٍ يجري الترحّم عليه. فهذا الطاغية في نظر كثيرين، شكّل الهامش الأكثر أماناً للمسيحيين الذين كانوا يحظون يومها بحرية لو مجتزأة، في ظل حزب البعث الذي كان يحكم السيطرة على مفاصل الحياة الأمنية والسياسية. كل شيء تقريباً كان متاحاً نسبة إلى مجتمع متوسط الانفتاح، ما عدا السياسة.
عرف المسيحيون (كلدانيون، أشوريون، سريان) الهدوء ضمن مجتمع إسلامي، وكانوا جماعة مسالمة استطاعت ممارسة شعائرها الدينية، كالذهاب إلى الكنيسة والاحتفال بالأعياد. لم يحظوا بمركز قرار أو مراتب عالية، إلا أنهم لم يشعروا يوماً بالخوف، كان العراق بالنسبة إليهم بلاد الرافدين التي احتضنت أجدادهم منذ ألفي سنة. كشاب كان يكفي محدّثنا العراقي أن يعيش هذه المرحلة من حياته بعيداً عن السياسة، فدرس في مدرسة تابعة لحزب البعث لكنه لم يُجبر يوماً على حضور اجتماعاتهم الحزبية الأسبوعية حيث كانت تناقش الآراء السياسية، ويفرض على الشبان حراسة مراكز حزبية كتأدية واجب وطني. لم يشعر بأن حريته مسلوبة طالما كان يستطيع أن يمضي السهرة في أي مقهى يريد، يشرب الكحول، يرتدي ما يحلو له، يسدل شعره، يضع قرطاً في أذنه أو يستمع إلى الموسيقى الغربية. كان يعرف أن أخته لم تجبر يوماً على ارتداء الحجاب، ولن تتعرض للخطف إذا خرجت من المنزل. مقارنة مع عراق اليوم، بغداد في ظلّ صدام كانت "جنّة".

الحرب كانت منتظرة، سبق وتحضّروا لها، أقلّه إعلامياً. سقطت المحافظات الواحدة تلو الأخرى، راح وزير الإعلام يتباهى بالنجاحات التي حققها "جيش العراق الباسل" في وجه الغرب. احتلّت أخبار الصمود والتحدي عناوين الصحف في النهار، وتناقلت ألسن العراقيين الفرحة في الجلسات المسائية. وبينما كانت الإذاعات والنشرات الإخبارية، العراقية والعربية، تحتفل بالنصر، سقطت بغداد.
صدام حسين الذي أخاف العالم بأجمعه، انهار، تكسّر كورقة يابسة. وبعد سقوط بغداد توقفت الحياة بكل أشكالها. إنقطعت الكهرباء والاتصالات، توقف العمل والدراسة. على امتداد ما يقارب العام لازم أهالي الزعفرانية منازلهم بشكل متواصل وكان لديهم ما يكفي من الطعام المخزن، فحزب البعث كان يوزّع شهرياً حصصاً تموينية لكل عائلة.

في العام الأول للاحتلال الأميركي كان الوضع جيداً على الصعيد الأمني، إلا أن العجلة الاقتصادية بقيت متوقفة. ينقضي الوقت في المنزل، لا أحد يجرؤ على الخروج أو يملك القدرة المادية لذلك. تنتشر في الخارج جيوش غريبة لم يعرف هذا الشاب أو غيره ماذا أرادت. بالنسبة له هم جنود مسيحيون، ولكنه لم يتمكن من تقبل هذا الدخيل على النسيج العراقي. لكن سرعان ما بدأت الثقة تنشأ بينهم وبين الأميركيين الذين دخلوا منازلهم وتعرّفوا إلى عاداتهم وسرعان ما تحول التعارف الى زيارات منزلية.
في عهد صدام كانت الكنيسة توزّع عينات غذائية وتقوم بأعمال اجتماعية محدودة. بعد الغزو خفت دورها إلى أن أصبحت هي من يحتاج إلى المساعدة. في العام الثاني فتحت المدارس أبوابها بعد تأخير، وتقبّل العراقيون الواقع الجديد بحيث أصبحت بغداد مدينة مشرَعة الأبواب لكل الاحتمالات والمجموعات المتسللة تحت جنح الظلام بهدف الإنتقام. لم يعرف العراقيون وقتها ماذا ستحمل معها هذه المجموعات من موت ومستنقعات دماء.

بعد عامين أو أكثر بدأ الوضع ينهار بشدة والميليشيات بالظهور علانية. أفراد عاديون تحولوا فجأة إلى مسلّحين، رجل دين يخطب في صلاة الجمعة وينشئ مجموعته ممن يتأثر بدعواته، مجموعات سنية أرادت الانتقام من النظام السابق وأخرى شيعية خرجت من قمقم التهميش، وبدأت السبحة تكر. الأعمال الأولى بدأت فردية، جندي سابق في حزب البعث يُقتل بسبب حادثة قديمة، فجأة أصبح الانتقام ممكناً ومتاحاً من أشخاص كانوا سابقاً محصنين وراء رتبة. بدأت موجة العبوات الناسفة وتفجير السيارات، معظمها كان من صناعة خارجية: أفغان وسعوديون وإيرانيون وسوريون وأردنيون، لاحقاً دخل الجميع في مستنقع الإرهاب، حتى العراقيون، لم يعد هناك احترام للحياة. سني، شيعي، مسيحي، طفل، امرأة، رجل، كلها أرقام في تفجير آخر، مساءً يبكي البعض موتاهم وينصرف آخرون للاحتفال بما يسمونه حق مقاومة المحتل.
الخوف كان موجوداً لكن الحياة كانت أقوى ولا بد من الاستمرار، حتى النسوة لم ينجين، إذ قضت مجموعة كبيرة منهن في سوق شعبية بعد تفجير انتحاري نفذته امرأة. لا يصدّق هذا الشاب أن العراقي يستطيع أن يقتل أمه أو أخته أو أولاده، يعتبر أن البداية كانت صنيعة خارجية إلى أن أصبح العراقي يساوي رقماً مالياً يشرى بسهولة. الحالة المادية تدنت ما سهل اختراق كل أسرة، وشرعت المجموعات بالصعود لينخرط في صفوفها من غسلت عقولهم بأفكار الموت وملئت جيوبهم بأموال طائلة. الأميركيون لم يعرفوا شيئاً عن تركيبة العراق، غرقوا في مستنقع من الموت المتحرّك. بعد موجة التفجيرات أصبح الجندي الأميركي يخاف العراقي والعراقي يتجنب الاقتراب من الأميركي خوفاً على نفسه من القتل، وهكذا عاد التنافر بين الاثنين وأصبح العراق غابةً من الأعداء.
بقيت الأمور تتهاوى، لا دولة ولا رادع، طوائف متناحرة، ميليشيات تسلّحت كل بشعار وبأموالٍ وبعناصر خارجية، وأصبح العراق كتلةً مشتعلة. تعرّض المسيحيون كما غيرهم للتفجير إلا أن الأضواء سلّطت على المسيحيين العراقيين باعتبارهم أقلية (قرابة 3 إلى 4% من سكان العراق). ويخبر الشاب عن أمر آخر تفشى في مجتمعه، فالمسلمون كانوا يعتبرون أن المستوى الإجتماعي ونوعية حياة المسيحيين أفضل مما لهم، وهذا الأمر فيه الكثير من الصحة. فالمغتربون المسيحيون كانوا يرسلون أموالاً إلى ذويهم في العراق. ومن جهة أخرى قام من يجهر بأن المسيحي كافر، فاجتمع السخط الاجتماعي والديني في آن معاً. وهبّت عاصفة السرقات والتعرّض للضرب والخطف، طُلبت الفديات وبعد دفعها كان المخطوف يعود مقتولاً ومرمياً في مكب النفايات. فُجّرت كنائس وفيها مصلّون، خُطف كهنة وقُتلوا، فتيات تعرّضن للاغتصاب والقتل. عموماً هذه صارت من يوميات العراق المنكوب.
وصفت بالحرب الأهلية لكنها كانت أكثر من ذلك، يقول الشاب العراقي. كانت غابة تكثر فيها الشرائع والإيديولجيات، جميعهم تباروا لصناعة عراقهم. ما بين العامين 2005-2006 سادت موجة الحجاب وأُجبرت الفتيات المسيحيات على ارتداء الحجاب في الجامعة والشوارع. منع المسيحيون من الذهاب إلى الكنيسة وهُددوا بشعار قديم "أسلموا تسلموا"، أو هاجروا "فأنتم كفرة". منعوا من بيع الكحول وتعليم غير اللغة العربية في مدارسهم. تغيرت نوعية الحياة، الأمسيات والحفلات توقفت خوفاً من مجموعات دينية متشددة، لباس الشباب تغيّر، بكل بساطة اندثرت الحرية في ظل الدعوات إلى امتلاك ما يسمى الجنة.
على عهد صدام حُرم المسيحيون من التعاطي في الشؤون السياسية، لكن حيّزهم الخاص بقي محفوظاً. سُمح لهم بالمحافظة على هويتهم في الزمن البعثيّ، اليوم صاروا يُقتلون إذا أقاموا حفلة. صداّم فرض التجنيد الإلزامي، وعراقيو اليوم يُفرض عليهم الموت المجاني. حوّلوهم من مجموعة مسالمة إلى خائفة أُجبرت على حمل السلاح دفاعاً عن نسائها ومنازلها وكنائسها. حكومة المالكي أمّنت السلاح لعناصر مسيحيّة كي تحمي الكنائس خوفاً من التفجيرات خلال القداديس أيام الآحاد ولمنع السرقات.

في العام 2007 قرر العراقي مُحدّثنا الرحيل عن بغداد، بعد أن عايش العبوات المتفجرة لسنوات وشاهد عائلات تهاجر. اليوم اعتبر أنه جاء دوره. كان يعمل في أحد مقاهي شارع الكرّادة في بغداد، مُنعوا عدة مرّات من إقامة الحفلات في المقهى إلى أن وقعت مشادة بينه وبين مسلّح من مجموعة قال إنه يخاف ذكر اسمها، فظلّ يأتي كل يوم ويرمي تهديده وأوامره متوعّداً بحرق المقهى. واحترق المقهى فعلاً بعد اشتباك بين المسلّحين والشرطة العراقية. بعد أن ترك الشاب العمل بقيت التهديدات تصله من أكثر من جهة، حتى إنه في إحدى المرات تعرّض للضرب. المسلّحون كانوا تابعين للدولة التي صار كل عملائها مرتشين، التطرّف والسلاح في آن معاً تركيبة كافية لمحو أمثال هذا الشاب من الوجود.
لبنان كان الخيار الأنسب للرحيل، فهو بلد مسيحي سبقه إليه عدد من الأصدقاء والأقارب، ومحطة مناسبة لتقديم طلب اللجوء إلى أميركا. الوصول إليه كان سهلاً لكنه كان مكلفاً أيضاً، قصد شركة سياحية وحجز على متن رحلة إلى لبنان. نزل في منطقة الدكوانة حيث ابن عمه، وسكن في شقة يستأجرها شابان عراقيان، بعدها قصد هيئة اللاجئين في منطقة فردان وحصل على ورقة صنّفته لاجئاً.

في لبنان نحو 500 عائلة من مسيحيي بغداد والموصل وأربيل ومناطق سهل نينوى، يتوزّعون على مناطق في قضاء المتن مثل سد البوشرية، الدكوانة، الفنار، والسبتية ذات الأغلبية المسيحية حيث تتعدد الكنائس وتتوزع على أحياء مختلفة. معظمهم لا ينوي الاستقرار في لبنان وإنما يقصده كمحطة عبور للإقامة في بلد لجوء آخر، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية. كثير من العائلات تصل من دون رجالها، فهم إما قضوا أو خطفوا، وكل عائلة تحمل قصتها وما يكفي في جعبتها من مأساة الرحيل عن وطن.
كل عراقي هارب من وسط وجنوب العراق يعتبر لاجئاً حكماً بحسب مفوضية الأمم المتحدة، ويمنح وثيقة تؤكد أن حاملها مقبول كلاجئ، لكن لبنان لم يوقع على اتفاقية جنيف 1951 الخاصة باللاجئين ويعتبر نفسه غير ملزم بها، وكثيرون من هؤلاء العراقيين الذين وصلت بهم السبل إلى لبنان، يعتقلون بحجة الإقامة غير الشرعية وتفرض عليهم غرامات. بعض الكنائس ومنها السريانية، وبعض المنظمات مثل كاريتاس، والأمم المتحدة تشكل ملجأ لهؤلاء العراقيين، يؤمنون العمل لهم ويتدبرون لأولادهم مدارس ليلية خاصة. تعمل النساء في المعامل المنتشرة في المنطقة، أما الرجال فيقصدون المصانع والسوبرماركات، وبعض العائلات تعمل كـ"نواطير" في المباني حيث السكن مؤمن ما يخفف من أعباء الحياة.
هذا الشاب يعمل براتب 250$ في الشهر لا يكفيه لمصاريف الحياة في لبنان. مستوى حياة أقل مما في بلده ومما هو مطلوب لصناعة مستقبل. يعزّي نفسه بأنها مرحلة انتقالية للوصول إلى أميركا حيث سيحظى بمسكن وعمل ومساعدات مادية كونه لاجئاً. لا يمكنه الادخار أو التملّك أو حتى قيادة سيارة لأنه لا يملك إقامة. جاليته تسكن الدكاكين والمستودعات، يراهم أيام الآحاد بعد القداس حيث يجتمعون في الكنيسة حاملين وجع الغربة.
في عيونهم يرى هروباً من بغداد الاضطهاد.. وغربة في بيروت الفقر والذلّ.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=88814#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق