

التكتم سمة لافتة عند الجنوبيين عموماً، وتحديداً أهالي المناطق المسيحية. فهم يخافون الحديث عن واقع منطقتهم أيام الاحتلال. فأهالي القليعة ومرجعيون عانوا من الجهتين، وعلى الرغم من أنهم يعزّون النفس بأنهم ليسوا الوحيدين الذين ذهبوا إلى إسرائيل، إلا أنهم يخافون من استعادة هذه الحقبة.
مصير بعض أهلهم غير معروف، و"الخبريات" كثيرة، والتخويف بـ"حزب الله" رائج عند أي إشكال يقع بينهم وبين المناطق المجاورة. ولا يخفي الجنوبيون تحسّرهم على حالتهم الاقتصادية المزدهرة أيام الاحتلال، حتى لو لم يجاهروا بذلك خوفاً من اتهامهم بالعمالة والخيانة.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب العام 2000، نزح نحو 7500 جنوبي من رجال ونساء وأطفال نحو إسرائيل. القسم الأكبر منهم عاد إلى لبنان حيث صدرت أحكام بحقّهم، وعدد ضئيل تمكن من السفر إلى الخارج ملتحقاً بأقاربه، ومنهم من لم يستطع التأقلم في لبنان فعاد إلى إسرائيل. اليوم يراوح عدد اللبنانيين في إسرائيل بين 2500 و3500 شخص، بينهم 60 في المئة من المسيحيين، وهم في أكثريتهم الساحقة من الموارنة ومن بلدة القليعة تحديداً، وآخرون من الطائفتين الشيعية والسنية. يسكنون المناطق الإسرائيلية ويتوزّعون على الجليل الأوسط والأعلى.
في ما يلي شهادة امرأة لبنانية جنوبية قصدت تل أبيب للعمل في أحد فنادقها. وعلى الرغم من أنها لم تطل البقاء هناك، فإن قصتها تروي جانباً من جوانب الحياة التي كانت قائمة في جنوب لبنان قبل العام 2000، وهي حياة لا يُفصح عنها إلا نادراً خوفاً من الزج في السجن بتهمة العمالة.

فكرة العمل في إسرائيل لم تكن غريبة عن محيطي. فالجنوبيون ـ بكل طوائفهم ـ عرفوا هذه الظاهرة أثناء الحرب الأهلية لانقطاعهم عن الدولة أو بالأحرى لانقطاع الدولة عنهم. وما إن أعلن سعد حداد العام 1979 "دولة لبنان الحر" في مناطق الشريط الحدودي المتاخمة لإسرائيل، حتى فُرض التجنيد الإجباري، واشترط على أي عائلة تريد العمل في إسرائيل أن يكون لأحد أفرادها صلة بهذا الجيش. وهذا كان حال أهلي وأقاربي الذين عملوا وتعاملوا مع الإسرائيليين. منهم من بقي وانخرط في الحياة هناك، ومنهم من هو قابع في مخيم لللاجئين في حيفا. هؤلاء هم "اللحديّون" كما يسمونهم، وأنا خضت جزءاً من تجربتهم، على الرغم من خوفي الكبير من معرفة أحد بذلك، إنما لا يمكنني أن أقتنع بأنني عميلة.
العام 1990 اتصلت بي قريبتي وأخبرتني أنهم يطلبون عاملات تنظيف في أحد فنادق تل أبيب، ويدفعون مرتبات عالية مقارنةً بما نتقاضاه في لبنان. لم أكن في حاجة إلى ترغيب، فامرأة مثلي في الثلاثين من عمرها، غير متزوّجة، لم تكن لتفكّر كثيراً في التزاماتها. أبي لم يعارض استجابتي فرصة أستفيد منها كما فعل كثيرون قبلي. وما يتطلبه العمل لم يكن سفراً بل مجرّد انتقال في نزهة إلى الجنوب كمحطة أولى أزور فيها أقربائي، ومن ثم إلى شمال إسرائيل حيث كل شيء يفترض أن يكون مؤمناً بحسب العرض: عمل لعشر ساعات يومياً في أحد الفنادق، حيث المنامة والأكل والنقل مؤمّنة، براتب شهري يصل إلى 1000 دولار.
أخبرت أصدقائي أنني ذاهبة في زيارة إلى الجنوب. غادرت بيروت وبحوزتي أوراقي الثبوتية، وبعض الثياب و75 ألف ليرة. انتظرت في موقف السيارات ليكتمل عدد الركاب في سيّارة الأجرة، كانت كلفة التوصيلة من بيروت إلى الجنوب 25 ألف ليرة عن كل راكب. كلّ من أراد زيارة الجنوب في تلك الفترة، توجّب عليه الحصول على تصريح من قبل الحزب التقدمي الإشتراكي في منطقة جسر بسري في الشوف، حيث يقيمون نقطة تفتيش. تصريح المرور هذا يحتاجه اللبناني لدخول الأراضي تحت سيطرة "جيش لبنان الجنوبي"، بعد أن يسألونه عن وجهته وأسماء الأشخاص الذين يقصدهم. سائق سيارة الأجرة ينتظر في الخارج على حدود المعبر، بعد أن يترجّل الركاب ليخضعوا لاستجواب روتيني. بعضهم كان معروفاً لدى الإشتراكيين وعلى علاقة طيبة معهم. قلت لهم يومها إنني أريد زيارة أقرباء لي في جزين. قاموا بتفتيش حقيبتي لمنع إدخال منتجات إلى المنطقة الواقعة تحت الاحتلال.


أوصلني أحد أبناء القرية في سيارته إلى منزل أقربائي حيث بقيت أياماً عدة كزائرة. قصدت بعدها مرجعيون لتقديم طلب العمل في الفندق المحدد، وذلك في مركز تابع لجيش لحد. تسهيلاً للمعاملة ذكرتُ في الطلب اسم قريب لي وهو مقاتل سقط في صفوف "جيش لبنان الجنوبي" أثناء الإشتباكات، ما يزيد من فرصة دخولي إلى إسرائيل. انتظرت الموافقة خمسة عشر يوماً، وانتقلت بعدها إلى منطقة تل النحاس الحدودية ومعي حقيبتي ومبلغ 50 ألف ليرة. سيراً على الأقدام دخلت نفقاً اصطناعياً. كنا صفاً من عشرات اللبنانيين. كلّ منا خضع للتفتيش بدوره من قبل الجنود الإسرائيليين. في غرفة خاصة قامت جندية بمسح جسدي بآلة ثم انتقلت إلى حقيبتي راميةً الشامبو وأحمر الشفاه والكحل، بعد أن فتحت علب الدخان كلّها وفتشت كلّ سيجارة خوفاً من أي تهريب.
كان الخوف والرهبة يسكنان المكان. لم أكن أدري ماذا ينتظرني. دافعي كان المال لا أكثر ولا أقل. فمبلغ 1000 دولار في الشهر كان ثروة لعاملة تنظيف. وهذا غير الإكراميات التي يمكن الحصول عليها من نزلاء الفندق. راتب أكثر بخمسة أضعاف مما كنت أتقاضاه في لبنان. كنت أفكّر بتمرير الوقت إلى أن تعود الأمور في لبنان إلى طبيعتها وأعود إلى وظيفتي بعد انتهاء "حرب الإلغاء" بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون و"القوات اللبنانية". ومذذاك كنت وما زلت من مناصري العماد ميشال عون.
رائحة النفق كانت غريبة جداً، كأنني في مخاض أنتقل من حالة إلى أخرى. بعد التفتيش انتظرنا أربع ساعات حتى أتت سيّارة من الداخل الإسرائيلي لتقلّنا. شاحنة صغيرة كل من فيها يتحدّث لغة مختلفة عن الأخرى. خلال فترة الانتظار، شعرت بجوع شديد. لم أعلم بأنني سأمضي ذلك الوقت كله للوصول. تعرّفت بامرأة درزية وولديها. عرفتها من لباسها الديني الأسود والشعر المغطى بالأبيض. هي من المقيمين في إسرائيل وتأتي بين فترة وأخرى لزيارة أقارب لها في حاصبيا في لبنان. قدّمت لي رغيفاً من الخبز المرقوق وماءً ثم سألتني إن كنت هنا للعمل، كأن شكلي أوحى بذلك، أو هناك رائحة ما تفوح من الذين يأتون لأول مرة.

من نافذة السيارة تراءت لي مناظر جميلة جداً لتلك البلاد الغريبة. كانت المرأة الدرزية تخبرني عن أسماء بعض المناطق. اللافتات جميعها مكتوبة بالعبرية. مررنا بمنطقة "فيلاّت" لها أشكال غريبة: صحن فضائي، برج، قنطرة، أشكال هندسية لافتة باللون الأبيض... عرفت من أحد الركاب أن هذه المنطقة مخصصة لضباط الجيش الإسرائيلي وعائلاتهم. كان الركاب ينزلون في محطاتهم واحداً تلو آخر. وصلت تل أبيب في المساء، وتحديداً إلى فندق "سان دانيال" حيث كان عليّ البدء بالعمل صباحاً. لم نترجّل من السيّارة، بل انتظرنا المسؤولة عن الموظفين، وهي يهودية تحدثت إلى السائق باللغة العبرية وأرسلتنا إلى فندق آخر قريب تم استئجاره للعمال. نزلت في غرفة فيها ثلاث بنات جنوبيّات سبقنني إلى العمل. كنت متعبة جداً وكان الشتاء بارداً فاستسلمت إلى النوم.
في صباح اليوم التالي دخلت الفندق الذي سأعمل فيه. رحت أتأمله مندهشة. لم يسبق لي أن كنت في مكان بهذه الفخامة. اللافت كان عدد الأجانب الذين ينزلون فيه. كان عملي يقضي بتنظيف الغرف. جمعتنا المسؤولة متحدثةً إلينا بلغة عربية طليقة، لكن بلهجة فوقية. يجب ألا ننسى أنها إسرائيلية ونحن عرب. في العمق كانت امرأة شوفينية.

فتاة من قدامى العاملات علمتني كيف أقوم بترتيب السرير وكنس الأرض، وأمور أخرى مثل تنظيف الحمام واستبدال الشراشف والمناشف المتسخة بأخرى جديدة في غرف الفندق. لا أدري لماذا أذكر غرفة الغسيل ذات المساحة الشاسعة. ربما لأن مشهدها غير مألوف، وتحوي آلات هائلة وضخمة كتب عليها باللغة العبريّة، وجميعها يدور بالطريقة ذاتها. في البداية لم يكن هناك ثياب خاصة أرتديها. كان عملي روتينياً وسهلاً نسبياً، يبدأ عند الساعة الثامنة صباحاً وينتهي في السادسة مساء، تتخلله ساعة غداء في مطعم مخصص للعمال من اسرائيليين وفلسطينيين ولبنانيين. من أهم الشروط التي فرضت على اللبنانيين هي عدم التواصل مع الفلسطينيين. كانوا يشددون كثيراً على هذه النقطة، كأنهم يخافون من تآمر ما.
الطعام غني جداً نسبة إلى ما يقدم للعمال. ثلاث وجبات متكاملة، من بوفيه مفتوح وخدمة شخصية. العشاء يكون عادة مما تبقى من الظهر. الطعام لذيذ لكن المياه مقيتة. لشدة ملوحتها يضعون فيها الورد كي تصبح مقبولة. يمكن للعامل أن يشتري قنينة ماء، لكن معظمهم يفضل توفير المال ويقتنع بالموجود. في يومي الأول، وبينما كنت أتناول الغداء بصحبة فتيات تعرّفت بهن هناك، جلس عمال وعاملات اسرائيليون إلى طاولة قريبة منا وراحوا ينظرون إلينا نظرات غريبة متحدثين في ما بينهم بلغتهم، قبل استخدامهم اللغة العربية لشتم العرب واللبنانيين. كسائر الموجودين لم أجرؤ على الردّ. كنا نحتاج إلى أموالهم، وعلينا تلقّي الإهانة ساكتين. ذلّ معلّب يأتيك على شكل نظرة أو كلمة، ويحرق كنار ملتهبة.

مضى الأسبوع الأول سريعاً. تعرّفت إلى شاب فلسطيني يعمل في الفندق نفسه. كان محظوراً عليّ التعاطي معه، لكنني أمضيت برفقته وقتاً طويلاً. أخبرني كثيراً عن الحياة هناك. طلب مني أن أريه العملة اللبنانية. أراد الإحتفاظ بها كتذكار. في إحدى المرات عرض علي البقاء في إسرائيل وتدبير زوج لي هناك. في بداية الأسبوع الثاني مرضت بسبب الطقس البارد، فتعرّضت لالتهاب رئوي. كنت أذهب إلى العمل على الرغم من حالتي السيئة: حرارة مرتفعة وسعالٌ متواصل. بعد أن ازدادت حالتي سوءاً وبدت علي آثار المرض بوضوح، حاول الشاب الفلسطيني مساعدتي وطلب من مسؤولة الموظفين أن تأتيني بدواء، لكنها رفضت ذلك. تطوّر الكلام بينهما إلى صراخ، وعلى الرغم من ذلك بقيت المسؤولة مصرّة على عدم معالجتي.
في اليوم العاشر عدت من العمل إلى الغرفة، غير قادرة على الخروج. كنت أنتظر الفتيات كي يأتينني بشيء آكله مع الشاي. بقيت على هذه الحال مدة يومين أو ثلاثة. الشاب الفلسطيني أصر على اصطحابي إلى الطبيب. هذا الشاب الذي كنت أخاف أمثاله في لبنان وأتقي شرّهم كأنهم تعويذة، هو الذي ساعدني في تلك البلاد الغريبة، ربما لأنه عرف الذلّ مثلي، أو ربما لأنه إنسان فقط. في الساعة العاشرة، بينما كان الجميع نياماً، تسلّلت من الغرفة والتقيت به في الأسفل حيث أخذني إلى منزل طبيب قام بمعاينتي ووصف لي أدوية لم أتمكن من شرائها، لأنني لم أكن أملك غير خمسين ألف ليرة، وكل ما رحت أفكر فيه هو العودة إلى لبنان.

ملازمة الغرفة أشعرتني بضيق خانق لم أقو على احتماله. كأنني دخلت سجناً بملء إرادتي. عزمت ذات صباح على الخروج من الغرفة للتعرّف إلى تلك البلاد التي أغرتني بأموالها. مشيت حتى وصلت إلى شاطئ البحر. نظافته مستغربة إلى حد ما. أذكر أيضاً جداراً وجنوداً يقومون بحراسته، نساءً ورجالاً. الشوارع نظيفة وفيها سيّاح أجانب. حتى شوارعهم لها رائحة مختلفة يمكن تمييزها. ربما كانت رائحة الغربة. ربما كل بلد تفوح منه رائحة خاصة به. دخلت سوقاً شعبياً يعرض المنتوجات على الطريق، يشبه أسواقًا شعبية عندنا في لبنان. بسطات تمتد على مسافة ضيقة طويلة. كثرة من البائعين والمتسوقين ممن يضعون القلنسوة اليهودية البيضاء. دخلت أحد المحال لشراء قنينة ماء وعلبة تبغ. ظللت أفكر وقتاً طويلاً كيف سأتفاهم مع البائع الذي فاجأني بتحدثه اللغة العربية. عرف طبعاً أنني لبنانية، حتى إنني دفعت له بالليرة اللبنانية. أذكر جيداً أن التبغ الذي دخنت سجائره، كان صناعة إسرائيلية، نكهته غريبة وأغلى بكثير مما يتوفر في لبنان.
اشتدت حالتي الصحيّة سوءاً، حتى إنني صرت أبصق دماً، فقررت الرحيل عن تل أبيب، لكن إلى أين؟! إحدى الفتيات في الفندق أبلغت المسؤولة بمرضي، لكن تلك المتعالية رفضت ترحيلي وحدي. كان عليّ انتظار أحد العمال الذين يريدون العودة إلى ديارهم. لن تتكلف أجرة سائق على عاملة واحدة لم تكمل شهرها، ورفضت إعطائي بدلاً مادياً عن الأيام التي عملتها. كانت قذرة جداً وأنا كنت امرأة غريبة مرضت في بلاد لا تعرف أحداً فيها ولا تستطيع المطالبة بأي حق من حقوقها. يكفي أنها عربية تعمل عند إسرائيليين. يكره المرء أن يتذكّر لحظات كهذه رغم أن الإذلال يحفر عميقاً في الداخل، لكن الحديث عنه صعب.


أواخر الأسبوع الثاني سنحت لي فرصة الرحيل. كنت في حالة سيئة وبنصف وعي، مخدرةً، مما أشعرني أن المسافة دهراً. عند خروجي من إسرائيل لم أخضع لأي تفتيش.لا يخافون إلا على محميّاتهم العنصرية، وكل ما هو خارج عنهم لا قيد عليه. ما إن وصلت إلى الجدار ولمحت منطقة تل النحاس حتى شرعت في البكاء. لم أعرف من أين أتتني كل تلك الدموع. بكيت أيامي الخمسة عشر. بكيت لأنني مريضة، ولأنني عدت إلى بلدي، ولأن تلك الإسرائيلية لم تؤمّن لي الدواء. لأنني لم أنل بدلاً عن الأيام التي عملت فيها، ولأنني لم أفكر سوى بالمال. إلا أنني لن أنسى أبداً إسرائيليين شتموني لأنني عربية أستجدي عملاً لديهم.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=85617#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق