


يمثل قضاء جزين موقعاً وسطياً بين مثلث متناقض سياسياً وطائفياً، فالشوف الدرزي يحد شمالها ويربطها به تاريخ من الحساسيات أحدثها يعود إلى حرب الجبل عام 1983. الانتشار السني يطل عليها من غربها، جهة صيدا، وقد شارك أهل جزين في الحرب ضد الفلسطينيين وما رافقها من مآسٍ تخزّنت في ذاكرة شعب. أما الشيعة فهم من جهة الجنوب والشرق، وبدأت العلاقات تتوتر أواسط الثمانينات بعد ما تعرّضت المنطقة لاعتداءات من مناصري "حزب لله" بحسب ما يروي جزينيون.
يُحكى أن الوجود المسيحي في منطقة جزين استُحدث عام 1860 ليكون وسطياً بين الشيعة في الجنوب والدروز في الجبل، وبعضهم يؤكد ذلك بالعودة إلى سجلات القيد التي تحفظ أسماء بعض العائلات الشيعية التي كانت تسكن جزين. على مر التاريخ، تميّز ساسة جزين بالإعتدال ولم يكن للأحزاب اللبنانية عامة والمسيحية خصوصاً وجود ملحوظ، لا أكثرية طاغية ولا حزبية نافرة، لكن هاجس التقسيم كان الحاضر دوماً في أذهان أهالي المنطقة القابعين في محيط جنوبي يدغدغ شعور الخوف على وجود الجماعة.

عاشت هذه المنطقة فترة الإحتلال الإسرائيلي، وانخرط عدد من شبانها في صفوف "جيش لبنان الجنوبي" كما أن عددًا من الأهالي كانوا يترددون إلى إسرائيل بدافع العمل. أهل المنطقة يروون كيف كان الوضع الأمني في هذه الفترة متدهوراً، منع التجوّل كان يفرض بعد الساعة الثامنة مساءً وموجة الإنفجارات والاغتيالات تواصلت على مدى أعوام. يحصي بعضهم هذه العمليات بالمئات، وقد توزعت على مناطق عدة من القضاء مثل بلدات العيشية والجرمق وكفرحونة وعين مجدلين. ولا ينسى الأهالي كيف تم قصف هذه البلدات مرات كثيرة بالصواريخ الثقيلة، إضافة الى محاولة اقتحامها، وفي كثير من الأوقات سقط ضحايا مدنيون عن طريق الخطأ. فيما كثر يترحمون اسفين على المستوى المعيشي الذي كان مرتفعاً في فترة الاحتلال، فجزّين في تلك الحقبة اكتظّت بالنازحين من مناطق جبل لبنان وشرق صيدا.

يقدر عدد المقيمين في قضاء جزين بـ 20500 نسمة لا أكثر، يتوزعون على 56 بلدة، 35 منها لديها مجلس بلدي منتخب، وتعاني هذه البلدات من نسبة مرتفعة للهجرة الداخلية والخارجية. يتوزع الناخبون (ويقدر عددهم بـ 50000 ناخب على لوائح الشطب) بحسب تركيبة طائفية تتألف من الموارنة بنسبة 57 % والشيعة 22 %، الروم الكاثوليك 14 %، السنة 3 %، الروم الأرثودوكس 2 %، الدروز 1 % وأقليات مسيحية 1 %. ولأن قانون 1960 طُبق لهذه الدورة، فسيسمح لمواطني القضاء باختيار نوابهم الثلاثة: مقعدان للموارنة الذين يشكلون النسبة الكبرى من عدد السكان، ومقعد للروم الملكيين الكاثوليك.
في مقابلة مع أحد مخاتير قضاء جزين، نقل محدثنا قلق الأهالي وتحفظهم عن إظهار ميولهم، فجميعهم يرحب بالقانون الإنتخابي لأنه يعبر عن استقلال في الرأي ويؤدي إلى انتخاب ممثلين يهتمون بهذه المنطقة التي تعتمد على السياحة المتأثرة بالتوتر الأمني والإنتاج الزراعي الضئيل بسبب ارتفاع كلفة اليد العاملة. أهل جزين يريدون حقوقهم من نوابهم. هناك معاناة متمثلة بالهجرة المكثفة، أراض شاسعة فرغت وأخرى بيعت لتبقى جزين من دون أهلها...

وصفت مدينة جزين بـ"مقبرة الأحزاب" للدلالة على التوجه العام الذي تتبعه العائلات فيها. فالأحزاب قاطعت الانتخابات منذ العام 1992 معترضة على اختيار ممثلين من بين مجموعة من العائلات السياسية. واليوم بعد أربع سنوات على انتخابات 2005 التي حملت عناوين عدة منها تهميش المسيحيين، عاد التوزيع السياسي ليحظى بتنوع كبير في الشرائح السياسية، ينطلق من وجود للتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب في الشارع المسيحي، ومناصري "حزب الله" و"أمل" في الشارع الشيعي. إضافة إلى شخصيات مسيحية بارزة على صعيد المنطقة مثل سمير عازار وإدمون رزق...
بعد العام 2005 عاد "التيار الوطني الحر" ليدخل أكثر في المشهد الجزيني، فالتنظيم ظهر من خلال المكاتب السياسية التي استحدثت في مراكز ثقل للمؤيدين مثل جزين المدينة وبكاسين. أما التمويل الأبرز للمعركة الحالية فيتناقل أهالي المنطقة أنه يأتي تحت مظلة "عصام صوايا" أحد رجال الأعمال الأثرياء ومرشح لائحة "التيار الوطني الحر"، حتى أنه يقال إنه موّل العملية الإنتخابية كلها. ويلحظ الصف العوني بعض الإنقسام بين أنصاره، فهناك كما يروى في جزين طرف محسوب على زياد أسود (أحد مرشحي اللائحة) وطرف آخر يختلف معهم على طريقة استخدام المال السياسي وشراء الناخب، ما يتعارض مع مبدأ "التيار" وحربه على الفساد. هذا فيما لا يزال هناك بعض المآخذ على النائب ميشال عون لتفاهمه مع "حزب الله". أما الحزبيون في "التيار الوطني الحر" فيؤكدون أن حضورهم الشعبي في المنطقة بات أقوى من ذي قبل، معتمدين بذلك على الدعم الذي يوفّره التفاهم المبرم مع "حزب الله"، لذلك سعى "التيار" الى فرض لائحة تضم ممثلين له ومؤيدين في وجه اللائحة التقليدية المعهودة. وهناك قراءة أخرى داخل "التيار" ترى في عون "القائد الذي يسعى الى استعادة دور منطقة جزين على المستوى المسيحي، وإخراجها من الهيمنة الشيعية، كما حصل في مناطق أخرى".
في النسيج المسيحي يحاول مسيحيو 14 آذار المحافظة على وجود يعود إلى فترة الحرب. حزب "الكتائب" تم إعادة تنظيمه واستحدثت مكاتب سياسية له في جزين. أما حزب "القوات اللبنانية" فمركز ثقله في شرق صيدا، والعمل السياسي لم يستعد أنفاسه بشكل جيد بعد، وهناك مآخذ من بعض الجزينيين على قائد "القوات" سمير جعجع تعود إلى مرحلة سابقة بسبب أدائه في الحرب، وتحديداً بعد خسارة معركة شرق صيدا والجبل، ما أثر وقتها سلباً على جزين بعد نزوح مكثف إليها لتصبح ملجأ مسيحيي الجنوب. إدمون رزق له وجود سياسي قديم، وقد تبناه حزب "الكتائب" عبر خطاب سابق لرئيس الحزب، فيما يعتبر فريق 14 آذار أن هذا الرجل ثابت ومستقل في مواقفه وله الأحقية بأن يشكل لائحة من أبناء جزين.
سمير عازار، الشخصية البارزة على الساحة في جزين، وكان قد انتخب على لائحة الرئيس نبيه بري منذ العام 1990 بعدما قاطع المسيحيون الانتخابات واعتكف ادمون رزق وفريد سرحال عن الترشح بناءً على طلب البطريرك الماروني يومها. ويحظى سمير عازار بشعبية واسعة نتيجة وجوده الفعال في المنطقة وخدماته المتنوعة، هناك بعض المآخذ عليه مثل انتمائه لكتلة نبيه بري وليس لكتلة مسيحية، كما يعتب عليه بعضهم لأنه لم يتدّخل لمساعدة أبناء المنطقة المحكومين بالسجن بعد الانسحاب الإسرائيلي.
الجزينيون متيقنون من أن بري متمسّك بترشيح عازار الذي يمثل قوة خدماتية كبيرة في المنطقة، وهو يشكل ركنًَا أساسيًا في الزعامة الجنوبية، يساعده في ذلك وجود كتلة شيعية مرجحة في إقليم الريحان له حصة فيها، أما الحصة الأخرى فهي لـ"حزب الله" شريك بري الأساسي على صعيد الوطن وتحديداً في الجنوب.

للمرة الأولى يستعيد الوجود المسيحي في جزين حرية إختيار ممثليه بعدما كان هذا القضاء جزءاً من دائرة الجنوب الثانية التي تضمنت بالإضافة إلى جزين، دائرتي النبطية ومرجعيون حاصبيا، وهو ما كان يشتكي منه أهل القضاء كثيراً على اعتبار أن الصوت المسيحي ذاب في محيطه الأوسع.
فمحافظة الجنوب، وفيها 23 مقعداً مقسمة على سبع دوائر انتخابية، معظمها محكوم بتحالف "حركة أمل" و"حزب الله" المسيطر على اللعبة الانتخابية هناك. إلا أن القانون الانتخابي لدورة 2009، على رغم الفرز الطائفي الذي ينتجه، يعتبر الأكثر انصافاً نسبة لما كان عليه الحال بالنسبة لأبناء المنطقة بعدما اشتكوا من قوانين "المحادل والبوسطات" التي فرضت عليهم واقعاً جنوبياً بلون واحد.
في انتخابات 2005 طبق ما عرف بـ"قانون غازي كنعان"، ففاز نواب جزين بالتزكية في ظل مقاطعة واسعة قادها "التيار الوطني الحر" و"لقاء قرنة شهوان" وشخصيات جزينية مستقلة. لكن المشهد السياسي تبدل جذرياً، فقد أعيد خلط الأوراق وتغيّرت التحالفات والمواقع لترسم صورة مختلفة ومحيرة: المعارضة بلائحتين ومستقلون بلائحة ثالثة.. لائحتا المعارضة تراهنان على أصوات الحليف المشترك "حزب الله"، أما الثالثة فستسفيد من الإنقسام الحاصل في صفوف المعارضة.
هكذا فإن جزين سيقت إلى معركة حاول "حزب الله" تجنبها إلا أنه لم يفبح في ذلك، فالنائب ميشال عون وصفها بـ"الماتش الودي بين فريقين متفاهمين على الاستراتيجية السياسية والأمور الوطنية".
فريقا البيت الواحد يتنافسان: الأول يخرج من رحم العائلات السياسية المعروفة بالاعتدال الذي اعتبر حامي هوية جزين في محيطها الجنوبي، وهو متمثل بلائحة يترأسها سمير عازار. والثاني، لائحة شكّلها ميشال عون تحت عنوان استعادة القرار المسيحي. أما الفريق الثالث فسيضم النائب السابق ادمون رزق، وستكون لائحته مدعومة من مستقلين وقوى 14 آذار.

بين لوائح ثلاث، تختلف آراء الجزينيين بما يحمل كل منهم من تراكمات وتمسّك بمصالح جزين، وكلّ ملتزم بقضية تلقي بتفرعاتها الثلاثة: الحزبية، العائلية والطائفية. ولو أن الحديث عن نتائج محسومة مبالغ فيه بنظر البعض، إلا أن الحالة المساندة للنائب عازار لا يستهان بها بين أنصار كل الأحزاب، وهو كما يقال "الفائز الدائم". كثيرون يفضّلون "جزّينيتهم" على حزبيتهم أو حتى طائفتهم، وبعضهم يتوجس من الطابع الشخصي الذي اتخذته المعركة. حساسيات كثيرة تلقي بظلالها على الجو العام، فانقسام المعارضة فاجأ أنصارها بعد مفاوضات طالت إلى أن شُطر الشارع الجزيني إلى عدة خيارات، والحل الأقرب سيكون من نصيب "التشطيب".
في جزين، بعضهم يرى أن المرشح زياد أسود "متعال"، وآخرون يلصقون بعازار صفة "التابع". "الكتائبيون" يتشبثون بأنطوان خوري، لأنه قدم خدمات كثيرة ويحظى بشعبية كبيرة في شرق صيدا. وتحت مقولة "لا عون ولا بري بل إدمون رزق المرشح المستقل" تبرز صورة ثالثة تشهدها جزين، وهؤلاء يعتقدون أنه من الافضل أن يكون النواب وسطيين وليس طرفاً في حسابات أكبر، فسمير عازار "تحصيل حاصل"، وبحسب رأيهم عون يرى الأمر تصفية حسابات مع بري، وجزين المكان الأمثل لذلك.
معركة غامضة في الشارع الجزيني، والناخب يعيش بين كثرة الرهانات في ظل هذا الانقسام الحاد الذي نبت فجأة في جسم منطقته السياسي... فبعد أن هُمشوا لسنوات طوال، ها هي الأبواب فتحت على مصراعيها ليضيع المواطن في كمية الخيارات. هل سيكون حصانهم الرابح من قدّم الكثير ورافق الأهالي في مطالبهم، أم أن التغيير سيجتاح عروس الجنوب هذه الدورة؟
والسؤال الذي يطرح في جزين ويوصف بأنه "الأقسى" بالنسبة لـ"حزب الله": أي حليف سيختار الحزب، وكيف سيضبط آثار معركة حاول وقدم الكثير لتفادي وقوعها بين حليفيه؟
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=93958#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق