


لم يكن الإنسحاب الإسرائيلي متوقعاً في أيار من العام 2000... فجأة، بين ليلة وضحاها، إنسحبت القوات الإسرائيلية لتترك وراءها عناصر "جيش لبنان الجنوبي"، وجلّهم من أبناء القرى والبلدات التي انسحب منها المحتل، في حالة إرباك وحذر شديدين. منهم من لازم موقعه في انتظار اتضاح الصورة، والباقون لملموا خوفهم وسارعوا إلى إسرائيل تاركين وراءهم كل شيء، قواعد عسكرية، مراكز، ملفات... إذ كان الأمر أشبه بالصاعقة. بعض المناطق، مثل جزين، بقيت مفتوحة على ألف احتمال، فالجيش اللبناني لم يظهر، ومؤسسات الدولة غائبة، ولم يتبقّ أمام الاهالي إلا ممارسة الأمن الذاتي في انتظار اعتراف تأخّر. أما المناطق الأخرى، فقد سارع "حزب الله" الى دخولها وسيطر على المواقع العسكرية كلها مصادراً ما فيها من ملفات وأسلحة، إلى أن استلمها الجيش اللبناني.

تختلف قراءة التحرير باختلاف الانتماءات السياسية، حتى إن روايات البعض اختلفت بين عام وآخر بعد التحالفات السياسية، إلا أن الجميع يعترف بفضل "حزب الله" العسكري الى حدّ كبير، لجهة أهمية إنجاز التحرير. فلا أحد يمكنه أن ينكر المقاومة التي أثبتت أن للأرض عزة، حتى لو أتت هذه المقاومة أحياناً على حساب ضحايا مدنيين لم يدخلوا يوماً في حسابات الكبار. فالعمليات التي كان ينفذها "حزب الله" خلال مرحلة الاحتلال، سقط فيها مواطنون مدنيون أبرياء لم يكونوا في عداد "جيش لبنان الجنوبي" بل محكومين منه. وهذا ما ظلّ ماثلاً في يقين أقارب وأحبة الذين سقطوا ضحايا. حتى بعد دخول المناطق المحررة، كان الوضع هستيرياً، وظن أهالي الجنوب أنهم انتقلوا من سلطة "جيش لبنان الجنوبي" إلى سلطة "حزب الله" الذي لم يتورّع أحياناً عن توقيف عدد كبير من الأهالي بتهمة العمالة، واستولى قبل دخول الجيش على كل المخلفات العسكرية المتروكة على عجل.
كما في كل مرّة عند كتابة تاريخ لبنان، لا رواية موحدة، وكلٌ يرى الظروف والوقائع بحسب إعلامه وحساباته الخاصة، وكلٌ يرسم وطناً مختلفاً عن وطن الآخر. ظروف إقليمية، تسوية دولية، مقاومة باسلة... آراء فيها كثير من الاختلاف، إلا أن الهدف جاء واحداً، الأرض تحررت والعدو انسحب تاركاً فسحة حرية جرى انتظارها طويلاً.
يحمل أهالي المناطق المسيحية عتباً على التصنيف الذي يلحق بهم والنظرة إليهم أحياناً بأنهم "ليسوا وطنيين بما يكفي كي يستحقوا هذا الاحتفال"، فالمقاومة ليست حكراً على فريق أو طائفة، أشكالها متعدّدة ومن صمد في أرضه ولم يغادرها، قاوم أيضًا ببسالة. وعلى رغم كل تاريخ مسيحيي المناطق التي كانت محتلة مع الحزب، والحذر الذي كان يحيط بهذا التاريخ، ومن الجانبين، وعلى الرغم من الاختلاف السياسي في الكثير من الأحيان، إلا أن مسيحيي تلك المناطق شعروا بالفرحة بعد ما حصل من تحرير وما زالوا حتى اليوم يستمتعون بالتحرير. وهذا طبيعي تماماً، إذ لا يمكن لأي مواطن أن يكون سعيداً بوقوع أرضه تحت الاحتلال.

يروي الجنوبيون أنه في السنوات الأخيرة قبل الانسحاب الإسرائيلي، تحول "جيش لبنان الجنوبي" إلى مافيا منظّمة بكل ما تحمله هذه الصفة من تجاوزات، وكانت المناطق تنوء تحت سلطتهم من من دون أن يكون هناك حل سوى الهرب خارج المنطقة، وترك العائلة معرّضة لشتى أنواع التهديد. فقد كان هذا الجيش منقسماً على نفسه، وفيه العديد من مراكز القوى، كما كان جرى خرقه من قبل "حزب الله"، ما أثر كثيراً على أدائه في ظل وجود تنافر بينه وبين أهالي المنطقة. وبالتالي فقد كانت تسود حال من العداء المبطن لدى الأهالي نحو "جيش لبنان الجنوبي".
التجاوزات كانت كثيرة، إذ استبيحت المنطقة بألف شكل وشكل، ثمة نساء ورجال عُذبوا بشتى أنواع التعذيب لمجرد الشك بأنهم يتعاملون مع "حزب الله". الفتيات عانين بشكل خاص، وجرى تضييق دائرتهن الاجتماعية ومنع عليهن حتى الخروج من المنزل في أحيان كثيرة، حتى أن حظر التجول بعد الثامنة مساءً كان يطبّق على الجميع، تحت طائل إطلاق النار على كل من يتجوّل ليلاً باعتباره متسللاً. حالة الخوف والقلق الدائمين عرفتها شتى العائلات، ولم يكن الأهل على معرفة مسبقة بموعد استدعاء أولادهم للانخراط بالقوة في صفوف "جيش لبنان الجنوبي" ليصبحوا عرضة لتهمة العمالة من جهة، وهدفاً عسكرياً من الجهة الأخرى.
الوضع الأمني كان مخيفاً، وإضافة إلى منع التجول، قام "حزب الله" في الفترة الأخيرة من الاحتلال، إلى تكثيف عملياته العسكرية، وكانت أهدافه دقيقة. فسيارة المرسيدس التي شكلت آنذاك رمزًا لعناصر "جيش لبنان الجنوبي"، كانت إنذار شؤم للأهالي، فما ان تمرّ أو تتوقف في أحد الأماكن، حتى تسود حالة من الرعب والترقب لأي انفجار محتمل يسقط فيه ضحايا مدنيون. أما إذا التقى أحدهم بجندي في الطريق، فقد كان مجبراً على نقله تحت التهديد، نظرًا لافتقار المنطقة لوجود سيارات مواصلات عامة.
الخدمة الإجبارية في "جيش لبنان الجنوبي" كانت تتم لمدة عام، وكانت في طليعة أكبر المشاكل التي عانى منها الأهالي. فهم لم يريدوا لأبنائهم أن ينخرطوا في هذه الميليشيا ويتورّطوا، والشباب كانوا يتهرّبون، وكثيرون منهم هربوا وغادروا قراهم كي لا يخدموا في الميليشيا هذه. والبعض منهم هرب إلى قرية مجاورة خارج المنطقة المحتلة، ليكون أقرب إلى بلدته وأهله، وإن كان ذلك يحرمه من رؤية أهله. فيما بعض هؤلاء الشبان لم يستطع الصمود فاستسلم للعنة الأمر الواقع.
يخبر أحد الشبان المسيحيين أنهم كانوا يدقون أجراس الكنائس طالبين النجدة التي لم تكن تأتي، وكانوا دائماً أمام خيارَين: إما التجنيد وإما الهروب وترك العائلة عرضة للملاحقة والتهديد. ويروى عن شاب خدم مدة التجنيد الإجباري لمدة سنتين وليس سنة واحدة كما هو المطلوب، وتبيّن أنه خدم سنة عن نفسه، والسنة الثانية خدمها بديلاً عن شقيقه الأصغر، كي يجنّبه هذه التجربة المريرة. وخلال السنة الثانية هذه، قضى الشاب بحادثة تفجير. وهو شاب يؤكد أهالي المنطقة الذين عرفوه أنه "لا يجوز ولا يمكن اعتباره عميلاً، لكن من يطلق الشعارات الوطنية عن بُعد، لن يمكنه فهم معنى "حكم الظروف". لأنه لم يفهم يوماً ماذا يعني أن تعايش حكم الظروف".
حواجز "اللحديّين" كانت معاناة أخرى بحد ذاتها، فبعد وقوف الناس والسيارات أرتالاً عند الحاجز والتدقيق بكل السيارات وأسباب المغادرة، كان من الأفضل أن تسير السيارات في مواكب كي لا تتعرض للقصف أو التفجير. وعند الانتهاء من الحاجز الأول يأتي دور الجيش اللبناني ليقوم بتحقيقاته مع العابرين الذين يشعرون بقساوة النظرة التي توشم الإنسان بالعمالة، حتى لو كان رضيعاً لمجرد كونه من أبناء تلك المنطقة.
ومن مستلزمات الحياة في هذه المناطق، تغيير لوحة ـ "نمرة" ـ السيارة بعد المرور بحاجز "جيش لبنان الجنوبي"، إذ لا بد في داخل المناطق المحتلة من وضع لوحات أخرى تحمل رمزاً خاصاً.

عاشت هذه المناطق حالة انفصال عن الدولة، بقعة لها جيشها وحكمها واحتلالها و...عدوها، كل ما فيها من التركيبة الفكرية كان مختلفاً عما في لبنان "الآخر" أي للمناطق التي لم تعرف الاحتلال الإسرائيلي... كانوا يسمعون النشيد الوطني اللبناني ويبكون، كأنهم في غربة أخرى، غربة شعب له معاناته وقضاياه ويومياته المختلفة، وله إذاعته وإعلامه وشعاراته الخاصة. لم يكن هناك هوية لبنانية، بيروت التي منع معظمهم من زيارتها، استبدلت قسرًا بتل أبيب، وشارع الحمرا بحيفا، هكذا كان واقعهم بكل ما فيه من تفاصيل... يتحسّر عليها البعض.
كان على الحياة أن تستمر، والنقطة الوحيدة التي كانت مشجعة والتي عرف العدو كيف يستغلها، كانت تأمين حياة اقتصادية مزدهرة. الدورة الاقتصادية لهذه المناطق انفصلت بشكل قطعي عن لبنان. يروي الأهالي أن كل الأزمات الاقتصادية التي عاشها اللبنانيون لم يعرف بها أهالي المنطقة الحدودية المحتلة. حى سعر المحروقات كان مختلفاً عندهم وأقل بكثير مما هو "هناك... في بيروت".
ويروي الأهالي آسفين لكون بعد التحرير تدهور وضع المنطقة اقتصادياً وأصيب الناس بخسائر اقتصادية جسيمة، وتوقفت كل الأعمال التجارية التي كانت رائجة ومزدهرة، وشحت كل مصادر المال. خسر الجنوبيون اقتصادياً وإنمائياً، في مقابل ربحهم الانتماء، الهوية.. والعودة إلى حضن الوطن.

التحرير لا يمكن أن يكون حكرًا على طائفة أو حزب، هذا ما يؤكده مسيحيو المناطق التي تحررت. مصيرهم عاد وارتبط بمصير لبنان، استعادوا انتماءهم لوطن، لهوية. ها هم اليوم يشاركون في قضايا الوطن ولم يعودوا مادة محتكرة من دولة عدوة. مكاسب التحرير المعنوية أكثر، بعيداً عن كل شعارات البطولة والوطنية، وقد تختصر عبارة أحد أبناء مسيحيي الجنوب ماهية هذا التحرير.. " فقرنا صح، بس ما في أحلى من الكرامة".
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=96080#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق