


حرب تموز 2006 لم تكن حرباً أولى ولن تكون الأخيرة، الجميع أدرك ذلك. فهذه لعنة لبنان، البلد المفتوح على كل الصراعات. عدو، اثنان، أكثر.. كم يسهل تعدادهم. بين حرب وحرب اعتاد اللبناني التقاط أنفاسه ليفكّر بتسوية ما تسهّل حياته إلى أن يحين موعد آخر فيغفو ليحلم من جديد. الغارات لم تكن جديدة لكن كل ما في الأمر أنها صمتت في الفترة الأخيرة لسنوات عدة فظن اللبنانيون أنه بات يحق لهم الحياة.
فجأة اشتعل الفتيل وتدحرجت كرة النار، بعضهم غضب والبعض الآخر افتخر، لكن جميعهم ذهلوا وترقبوا، فالموت حين يحلّ يصبح أقسى مما يحتمل. كانوا يفهمون غضبهم، فهم ملّوا الحروب، سئموا التشتت والتشرد هنا وهناك، لم يعد في روزنامة الأيام تواريخ صالحة لتذكّر الشهداء، فقد احتُلّت جميعها، وجدوا أنفسهم في حزن مدقع لأنه وبكل بساطة لن يردع إسرائيل أحد، كل ما كان عليهم هو الانتظار، تعداد الخسائر والترحّم على جثث لم تعن إلا أرقاماً في دفاتر الضرائب.

الأيام الأولى من الحرب كانت ترقباً رافقته حياة حافظت على جزء من استمرارها، حتى أن المؤسسات في مناطق عدة لم تتوقف عن العمل، وتابع الآخرون حياتهم بشكل شبه اعتيادي. الآخرون يعني هؤلاء الذين يسكنون جغرافيا خارج نطاق الحسابات الإسرائيلية هذه المرة، فاستمرت الحياة: عمل، صحبة، زيارات عائلية نزهات. كان الدخول في الحرب أمر يمكن التعايش معه طالما يأتي عبر صوت غارات بعيدة، ومن خلال الشاشات وصفحات الجرائد.
في هذه الفترة سُجّلت اليوميات بمتابعة الأخبار وبالانتقال من قناة إلى أخرى، وجوه مراسلين، أخبار عاجلة تقبع في الأسفل، رسائل صوتية، مواقع إلكترونية تنقل الأحداث، حصيلة النهار ضحايا يتكومون ليصنعوا جبلاً من الحزن اليومي. أما المساء فكان يحمل معه أصوات الطائرات التي تحوم لتحدد هدفها في أي لحظة وتقصف، وفي المناطق البعيدة عن القصف كان الليل يحمل حلماً بأن غداً سينتهي كل شيء.

سرعان ما بدأت موجة النزوح وما رافقها من غلاء في الأسعار، قطعت طريق المطار وتوقفت المرافق الحيوية، هكذا طرقت الحرب باب كل منزل. حالة حصار من نوع آخر، كانت الحياة الاقتصادية ثقيلة بكل ما تحمله من خوف ووجع مخزن من أيام الحروب السابقة. وصل النازحون إلى المناطق البعيدة عن القصف، بالآلاف توزعوا على المراكز المتاحة في مختلف المدن والبلدات المناطق، وفتح أهالي القرى أبوابهم لعائلات جديدة، بعضها كان قادراً على تأمين بدل إيجار، وبعضها أقام لدى أصدقاء ومعارف ريثما يتم إيجاد سكن آخر.
ترافقت ظاهرة النزوح مع ارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، كالمواد الغذائية والمحروقات والغاز. لم تتمكن محطات الوقود في المناطق من التزود بالوقود بسبب القصف، ما دفعها إلى تقنين توزيع البنزين على المستهلكين الذين كانوا يصطفون في طوابير للحصول على كمية قليلة تقضي حاجتهم. وأكثر المشاهد تعبيراً كان انقطاع حليب الأطفال الرضع، الأم كانت تعرف معنى أن أطفالها حالفهم الحظ ولم يسقطوا بقذائف إسرائيل، لكنها أرادت الحليب لإطعامهم.
وبدأت رحلة البحث عن حليب للأطفال، كانت المحال والسوبرماركت قد نفذت بضاعتها بعد أن قام الأهل بتخزين ما وقع تحت أيديهم. ثم جاء دور الصيدليات التي استفادت من رفع الأسعار بحجة عدم التوزيع وتوقف الوكلاء، فبدأ تسجيل أسماء الأهل والكمية التي يريدونها كأن المجاعة تطرق الأبواب. ولم يكن على الأهل إلا أن يقبعوا تحت الأمر الواقع ويدفعوا مبالغ خيالية من أجل علبة حليب قد تتأخر أياماً في الوصول .
وهكذا، سكان هذه المناطق لم يعودوا معزولين، أتاهم شبح الحرب وسكن يومياتهم، وأصبح هذا "الآخر" شريكهم في انتظار صفّارة الانتهاء.

في اليوم الرابع والعشرين شنّ الطيران الإسرائيلي سلسلة غارات على أربعة جسور رئيسية على طريق بيروت-طرابلس، فدمّرها وتسبب في عزل العاصمة اللبنانية عن شمال البلاد. كذلك عُزلت بيروت عن الجنوب والشرق. إسرائيل ضربت جسري المعاملتين وكازينو لبنان ودمرت جسري الفيدار والمدفون، لم يعد هناك "آخر"، أصبح اللبنانيون هم المستهدفون، وسقط قتلى وجرحى من الناس، من المواطنين المدنيين المفترض أن يكونوا آمنين، وهكذا دخلوا الحرب من بوابتها الخلفية لكنهم دخلوها وسقطت مقولة "إنها ليست حربنا". بكوا ولبسوا الحداد وخافوا ولازموا منازلهم، العدو لا يأبه لشيء.. وينظر إليهم كالـ"فئران" في مختبره.
تكوّمت الجسور ركاماً على الطرقات، أطراف الجسد المصابة تذكّر جميع العابرين أن الطريق لم يعد مفتوحاً، فهو أيضاً تحت الحرب كبقية الوطن.
الحرب هنا في دارهم، هم الذين اعتادوا على مفهوم المركزية حتى في المصيبة. ركام لا يصل بين فتاته إلا هيكله الحديدي، قضبان حديد عارية من الحجر الهامد، وحدها بقيت صامدة تبكي ضحايا عبروها وهم يظنون أنهم خارج كل هذا. لم يدركوا أن لا أحد فوق هذا الموت، وتحديداً إن كان إسرائيليّ التوقيع.
كعصافير مذعورة كانت السيارات العالقة في زحمة السير على هذه الطرقات، يعلق فيها العابر قبل الوصول إلى الجسور المقصوفة. تلك كانت حالة السير، فكيف بالأحرى حالة الحياة! اقتصدوا في تنقلاتهم ولم يقوموا إلا بالضروري منها، حتى أن تكلفة سيارة الأجرة تخطت المعقول وكان الذهاب إلى العمل- هذا إن استمرت المؤسسة بفتح أبوابها- مشقة تشبه السفر. شركات عدة نقلت مكاتبها إلى قبرص ودول عربية وصرفت عمالها مؤقتاً أو حتى بشكل نهائي، ومن بقي محظوظاً بوظيفته كان عليه أن يتحمل تخفيض الراتب والوقت الطويل الذي يمضيه في الطريق إلى العمل، وحتى المخاطرة بحياته كي يبقى موظفاً، لأن الحرب أدخلته دوامتها.

الأغنياء تمكنوا من السفر بسهولة، بتذاكر سفر عالية التكلفة تمكنوا من توفيرها، أما الذين اضطروا إلى البقاء، فقد خفتت حياتهم حتى باتت لا تُسمع، وحاولوا التوفير قدر المستطاع، وكانت الصورة تتجه إلى حرب طويلة لا يعرفون متى ستنتهي. بدت إسرائيل وكأنها عازمة على الفتك أكثر. توقفت الحياة الليلية التي كانت قائمة في بداية الحرب، حتى لو كانت مرابعها بعيدة عن الحدث الدموي، أصاب روادها الإحباط وغلاء البنزين والخوف من غد وما سيحل بالبلد، لازموا منازلهم يقنّنون حياتهم كما تُقنن السلع التي يستهلكون.
من استقبل النازحين في بداية الحرب تحوّل إلى نازح بدوره، كثيرون تركوا منازلهم في المدن وقصدوا القرى الشمالية النائية، أرادوا التخلّص من أزيز الغارات الذي تكثّف في الآونة الأخيرة على الضاحية الجنوبية. في الجبل حيث هربوا من الشر الطائر، لاحقتهم المقاتلات الإسرائيلية بهديرها لكنها أبعدت عنهم هداياها القاتلة هذه المرة.
في الأوطان الأخرى، الدولة تشارك في الحرب، في أرضنا كل طرف يمكنه أن يصنع حرباً على قياسه، تتسع شيئاً فشيئاً لتدخل الجميع في مستنقعها.. عنوة . طرف واحد بعينه يمكنه أن يقرر متى نحيا ومتى نموت وما علينا إلا الإمتثال. طرف واحد يتخذ القرار... ويتكفّل وكر الدبابير المعادي برسم ملامح طالعنا الدموي الأسود.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=104373#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق