


يتمنى الأهل الأفضل لأولادهم، ويتدخلون في أغلب الأحيان لرسم معالم مستقبل يريدونه أن يكون مكمّلاً لما ينقصهم هم. فالولد مرآة العائلة، يحمل اسم أبيه وينطلق به في الحياة، ومن كثرة المحبة، الخوف أو الغيرة، يسعى الأهل إلى تحصين أولادهم قدر المستطاع لاجئين إلى شتى الوسائل لتقديم الأفضل بنظرهم، فيغدقون في تأمين كل ما يحتاجه الولد، حتى التحصيل العلمي خارج إطار المدرسة. تختلف الأسباب باختلاف كل حالة، إلا أن تحوّل المدرّس الخصوصي إلى حاجة عضوية للعائلة يخرج هذه الظاهرة من إطارها الطبيعي. بعضهم يتعامل مع المسألة كمن يتبضع من أغلى المتاجر، فيحرص على استقدام مدرّس يتقاضى مبالغ باهظة ليظهر اهتماماً هائلاً وقدرة خارقة على الدفع.
دوافع واعتبارات الأهل متعددة، لكنها الأساس في الاستعانة بمدرّس خاص للولد. غالباً ما تكون الأم هي من يهتم بهذه الأمور، أما الأب، وهو المصدر المالي، فقد يحرم نفسه وباقي أفراد العائلة من أمور عدة لتأمين هذا الطلب، رغم القسط المدرسي المدفوع سنوياً. ومن الأمهات من لا تتمتع بالقسط العالي من الدراسة، ولا تستطيع بالتالي مواكبة ابنها في تعلّمه ولا يمكنها أن تشرح له ما يجده صعباً من دروسه، فتفكر بتدبر أستاذ خصوصي ليساعد ولدها. في حين لا تجد الأم العاملة غالباً، سبيلاً آخر للتوفيق بين مسؤولياتها داخل المنزل وخارجه، فتختار الأستاذ الخصوصي لابنها. وهناك أيضًا من النساء من يفضلن دفع المال، وتحديداً إذا كان متوفراً بكثرة، لتأمين وقت حر لاهتمامات أخرى. وبين الحاجة الضرورية والكماليات يعتاد الولد على الفكرة، خصوصاً إذا كان في سن مبكرة، ويصبح اتكالياً لا يجيد تحمل المسؤولية. حتى عندما يرفض التلميذ المساعدة خجلاً من رفاقه، تقنعه الوالدة بالتكتم على هذا الموضوع. فالنتيجة هي ما يهم، وهاجس العلامات لا يمكن مداواته إلا بالتفوق على "إبن الجيران".

أولاد الحي أو الأقارب هم التجربة الأولى، فتلميذ المرحلة الثانوية يبدأ بتقديم المساعدة لتلامذة الصفوف الدنيا، كخدمة تقابل بهدية أو لفتة رمزية من الأهل. عندما ينتقل الطالب إلى المرحلة الجامعية يكون التدريس خياره الأول، فهو لا يستطيع الانتظار حتى التخرج ليباشر العمل والإنتاج، ولا يمكنه الالتزام بمؤسسة أخرى كي يتمكن من حضور حصصه الجامعية، فيختار تلامذة يسكنون بالمقربة منه، يتنقل بينهم على مدار الأسبوع ليزاول مهنته الجديدة بدوام يتحكّم به ويؤمن مصاريفه الشهرية. أما الفتيات فيعتبرن أن هذه المهنة هي الأفضل والأكثر قبولاً عند الأهل، حتى إنهن الخيار الأنسب للاهتمام بدروس الأولاد الصغار. في الأحياء الشعبية والفقيرة عدد كبير من الأمهات لم يكملن المرحلة الإعدادية، فيستعنّ بابنة الجيران لقاء مبلغ رمزي في الشهر، حتى إن الولد يمكنه أن يقصد منزل المدرّسة لينهي فروضه، وهكذا ترتاح الأم من عناء الفروض.

غالباً ما تكون الدروس مسائية أو خلال عطلة نهاية الأسبوع، ومقابل أجر يختلف باختلاف نوعية المادة وطبيعة المستفيدين ومستواهم الدراسي. فالمواد العلمية هي الأكثر تكلفة، ويتراوح بدل حصة الرياضيات والعلوم بين 20 و50$. إنما لا تسعيرة محددة ومتعارف عليها في هذا المجال، وقد يحظى الأخوة بتخفيض للسعر في حال قرر الأهل تعليمهم في الوقت نفسه. هناك أيضاً خبرة الأستاذ وحياته المهنية. بعض الأساتذة لا يقبل بالسعر المعروف ويحمل معه "تاريخه وعدد التلامذة الذين عرفوا النجاح معه"، حتى أن بعض حملة الشهادات والخبرة لا يقبل أقل من 100$ للساعة الواحدة، ويعتبر أن ذلك انتقاصاً من مكانته. ومنهم من يرفض التعاقد مع مدرسة فيعتاش من هذه الدروس، ومنهم من يجني ثروات مقابل تعليم أولاد الإغنياء.

وحدة حال، فرد من العائلة، علاقة أبوّة، أخوّة، صداقة حتى المحبة. علاقات متشعبة وبأوجه عدة يمكن أن تنشأ بين المدرّس وتلميذه، وهذا يعود إلى الوضع الاجتماعي للأسرة، وقدرة الأستاذ على المحافظة على المسافة المطلوبة. في بعض الحالات يحتلّ المدرّس مكانة شاغرة بحكم تواجده المستمر والمتواصل على مدار السنة، يشارك الطالب مشاكله وحياته الخاصة بعيداً عن المادة المدرّسة، فيقدم نصائح تكون مقنعة بالنسبة إلى التلميذ. وعندما لا يتواجد الأهل في المنزل يسهل خرق كل شيء ويصبح المدرّس صديق العائلة وشريك همومها. ومن الأهل من يبالغ في تضخيم أخطاء المعلمين، وفي حال لم تكن النتيجة جيدة، يسهل إلقاء اللوم على الأستاذ، ليتحول الأمر إلى مشكل عائلي بين أب سئم دفع تكاليف، وولد لا يبذل الجهد، أو أستاذ فشل في مهنته.
عندما يشعر الطالب أن بإمكانه الحصول على المادة العلمية خارج جدران المدرسة، وبالشروط التي يحددها، لا يجد دافعاً كافياً للتركيز في الصف أو حتى التواجد في المدرسة. وبالمقابل فإن بعض أساتذة المدارس يشعرون بالغبن والمنافسة عندما يعرفون أن طلابهم يستعينون بغيرهم لاستيعاب المادة، وكأن الأمر حكم مبرم بعدم مقدرتهم على التعليم. وفي حال كان الطالب الخصوصي أحد تلامذة الصف، والمدرّس المسائي هو نفسه المدرّس الصباحي، لا بد أن تظهر معاملة ورعاية خاصة لهذا الطالب، حتى إن بعضهم يذهب إلى إفشاء أسئلة الامتحانات بطريقة غير مباشرة.

في النظام الداخلي للمدارس تُمنع إقامة علاقة خاصة بين الأساتذة والطلاب، كي لا تؤثر على تقويم التلميذ أو عطائه وتتخذ أحد أشكال المحسوبية؛ فالطالب عندما يلمس اهتماماً من قبل المدرس والإدارة، لا يمكن أن يبحث عن بديل في مكان آخر. من المدارس من يمنع الأساتذة من التدريس الخصوصي حفاظاً على صورة المدرسة، وكي لا تتعارض المصلحة الشخصية مع الهدف الأساسي. ولهذه الغاية تخصص حصص إضافية أيام السبت ضمن الصف نفسه. فحتى المدارس الكبرى في لبنان تهتم بالدروس الخصوصية كمصدر مادي جانبي، وتقدم فرصة للطالب في تحسين وضعه. في النصف الثاني من السنة تبدأ التلميحات بأن الطالب لن يُقبل السنة القادمة إذا بقي على المعدّل نفسه. الطالب الذي يحتاج إلى "تقوية" في مادة أو أكثر، يبقى لساعة أو أكثر في المدرسة بعد الدوام اليومي، ويمكنه أن يختار مدرّساً خاصاً به من المتعاقدين مع المدرسة، أو ينضم إلى عدة طلاب آخرين أمام المدرّس. بعض المدارس تؤمن المواصلات إلى المنزل، وبذلك يصبح الولد في "مدرسة بعد المدرسة".
في مختلف المناطق، وتحديداً الشعبية منها، تنتشر الإعلانات عن معاهد الدروس الخصوصية تحت شعارات متنوعة من نوع: "أحضره طفلاً وخذه عبقرياً".. "دورات لغة وتقوية لطلاب الشهادات"... وكلها دعوات لجذب الطلاب وذويهم. يختار الأهل هذا النوع من الأمكنة كونه يؤمن كل ما يحتاجه الولد ضمن برنامج متخصص. خلال العام الدراسي تتبع هذه المعاهد دواماً مسائياً لمدة 5 أو6 ساعات بعد الدوام المدرسي، وفي الصيف يخصص برنامج نهاري لمن يرغب في متابعة فروض العطلة الصيفية أو التحضير للسنة القادمة، وتأتي إدارة هذه المعاهد بمدرّسين يتقاضون أجراً معيناً على الحصة أو راتباً شهرياً ثابتاً، في حين أن التعامل مع التلميذ يختلف بحسب طبيعة المعهد وأسلوبه التجاري، بعضهم يحدد رسماً شهرياً يراوح بين 100 و150$ لطلاب المتوسط، و200$ للطالب الثانوي، لمختلف المواد ولخمسة أيام في الأسبوع. أما إذا أراد الطالب "التقوية" في مادة محددة، فيحاسب على كل حصة وبحسب المادة.
قد يتحوّل التلميذ إلى قيمة مالية وذلك بحسب المدرسة التي ينتمي اليها، عمل أبيه ومستواه الاجتماعي. فتلميذ المدرسة الرسمية يمكنه أن يدفع أقل من 100$ شهرياً، في حين أن تلميذ مدرسة خاصة معروفة قد يدفع 500$. يتحول التعليم الى نوع من الـBusiness بحيث تفرض الإدارة اهتماماً بالغاً بالطلاب الذين يدفعون أكثر، ورغم ذلك قد تتأخر كثيراً في دفع رواتب الأساتذة، وتحديداً في المعاهد غير المرخصة، حيث لا يوجد عقد عمل يحمي حقوق الأساتذة. ويلحظ عند عدد من المعاهد استقدام عدد من المدرّسين كل شهر بحجة الفترة التجريبية، ولا يدفعون لهم، وهكذا يمررون الأشهر بأقل تكلفة وأكثر ربح ممكن.
يختلف توزيع الطلاب وفق معايير عدة، في بعض المعاهد تفصل المجموعات بحسب الحصص، فيختار أستاذ الرياضيات مثلا مساحة خاصة به قد تكون طاولة يتحلّق حوله 5-6 طلاب. قد يكون الطلاب من عدة حلقات دراسية، فيلعب المدرّس دور المشرف على فروضهم، ويشرح لكل منهم ما يحتاجه، إلى أن ينتهوا، وعندما يرحل تلميذ يحل مكانه آخر حتى ينتهي دوام المعهد. من الممكن أن تصل وظيفة هذه المعاهد إلى تدريس المنهج الدراسي بدوام مماثل، ويحصل الطالب على بطاقة ترشيح تخوّله المشاركة في الامتحانات الرسمية. وتتم هذه المسألة بالاتفاق مع إحدى المدارس لقاء بدل مادي معين.
وبين من يرى أن انخراط المعلمين في دوامة الدروس الخصوصية هو محض تجارة، ومن لا يزال يؤمن بقدسية التعليم، تتنوّع النماذج وتتعدد. إذ وعلى الرغم من وجود بعض "الأساتذة" الذين لا يتمتعون بالقدر الكافي من المستوى التعليمي التربوي، إلا أنّ هناك الكثيرين ممن يستحقون الاحترام تحت تأثير ضمي مهني يدفعهم إلى المحافظة على شرف المهنة في خضم فوضى تعليمية... وضائقة مالية مستفحلة بين المواطنين، والمعلمون ضمنًا.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=106010#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق