
مهرجان طبيعي قائم بحد ذاته في وادي نهر الكلب، ينبض في قلب الجبال الشامخ، على بعد نحو عشرين كيلومتراً عن بيروت. المغارة ـ الأعجوبة منحوتة إبداعية ضخمة كوّنتها أزمنة ودهور من علاقة عشق متواصلة بين الماء وبلّور الصخور... علاقة حب "أنجبت" تشكيلات صخرية رائعة من صنع الطبيعة، ذات أشكال غريبةِ عجيبة آسرة، زادتها الإضاءة الفنية الموجهة إليها رونقاً وسحراً. وكلما ابتعدت داخل المغارة، تزداد تعلّقاً وولهاً بهذا الفن الطبيعي البكر، حتى لتصدّق أنه حقاً من إبداعات أيادي الملائكة.
الرحلة داخل المغارة تبدأها في مصعد معلّق يعمل بالتيار الكهربائي (تلفريك) مخصص لينقلك إلى المغارة العليا. وحين تصل إلى بوابتها تتابع المشوار الممتع سيراً على الأقدام، في "قادومية" ضيّقة يجعلها الماء المقطّر عليها ناعمة لزجة، تذكّر المارة أنهم في أحضان تاريخ يعبق بأريج الأولين. نفق يطل على أقبية هائلة الارتفاع تتوزع فيها أغوار مزروعة بصواعد ونوازل وأعمدة من روائع الصخر البلوري بأشكال تأسر العين والفؤاد. تخرج من المغارة العليا محمّلاً بالكثير من المشاعر الغريبة، تنتظر القطار المخصص ليقلّك إلى المغارة السفلى في رحلة قصيرة. هناك تستقل أحد القوارب الصغيرة التي تحملك لدقائق في شرايين الجبل حيث تهدر المياه الجوفية بأناشيدها الأزلية. تلفحك نسمات باردة لا تعرف لها مصدراً، وما إن تخرج حتى تتوجه إلى قاعة جرى تخصيصها لعرض فيلم وثائقي يخبر عن المغارة ويروي حكايتها التي عانقت التاريخ.
في هذا العالم عليك أن تغمض عينيك لتخزّن الصور التي تشاهدها في مكان نظيف من الذاكرة حيث تحتفظ باللحظات الجميلة، فالتصوير ممنوع داخل المغارة، وكذلك استخدام الهواتف النقالة، وحتى مجرّد لمس بنات الآلهة من الصخر المجبول برطوبة الإبداع، محظّر. هنا يجب احترام قدسية الطبيعة حيث التاريخ ترك بصمة يبرز جمالها أكثر مع تقدم العمر، جمال يهزم الزمن ليقترن باسم الأرض التي حملته.

قصة مغارة جعيتا في التاريخ المكتوب بدأت عام 1836 عندما جرى اكتشافها بالصدفة من قبل مجموعة من روّاد استكشاف المغاور من أميركيين وإنكليز. بعد ذلك عاود مستكشفون لبنانيون الدخول في أحضانها، وعادوا يخبرون بما شاهدوه من أعاجيب. بعد ذلك افتُتحت المغارة أمام الجمهور، وكان ذلك عام 1958.
تتكون جعيتا من مغارتين، عليا جافة وسفلى يهدر فيها شريان مائي عظيم، والغارتان تحملان صورة لمشهد ساحر سقفه الجبل وأرضه المياه الصافية. تقتصر الزيارة في مغارة جعيتا على عبور جزء يسير منها، إذ أن ما تم استكشافه حتى الآن وفتحه أمام الزوار لا يزيد عن نحو 9% من كامل المغارة. فهي أضخم منحوتة طبيعية في الشرق الأوسط، بارتفاع 6 أمتار و60 سنتمراً وبوزن 75 طناً، وتقفل في الشتاء بسبب ارتفاع مستوى الماء فيها.

في العام 1995 وبعد عشرين عاماً من الإقفال القسري نتيجة الحرب في لبنان، أعيد افتتاح المغارة التي تمكنت من الفوز بجائزة "القمة السياحية" للعام 2002 حيث تم اختيارها من بين 27 موقعاً عالمياً. كانت هذه خطوتها الأوسع نحو الشهرة والعالمية. وحديثاً دخلت في مسابقة على مستوى أشمل، وتم تصنيفها بين 28 موقعاً من أصل 440 موقعاً عالمياً "ستتنافس" لنيل الحظوة بالدخول في اللائحة العالمية لعجائب الدنيا السبع.
وتتمّيز هذه المواقع المختارة بملامحها الطبيعية التي وضعت بمرتبة الآثار من حيث الاختيار والتصنيف. وثمة جولة جديدة يخوضها اللبنانيون، ومعهم عشّاق عجائب الطبيعة حول العالم، لإيصال مغارة جعيتا إلى لائحة العجائب السبع العليا، حيث إن الاختيار يتم على أساس عدد الذين يُدلون بأصواتهم لها، وهي تتنافس (في المنطقة العربية) مع موقع البحر الميت في الأردن، وشاطئ بوكينا في الإمارات العربية المتحدة. الصحافة اللبنانية مهتمة بالطبع بهذه المسابقة، والمواقع الإلكترونية تحث الزوار على التصويت لصالح جعيتا، وكثيرون من المتحمسين قاموا بتطوير مجموعات تشجيع جديدة على "الفايس بوك" (FaceBook.com) كونه وسيلة التواصل الأكثر انتشاراً، وإرسال تشجيعهم للأصدقاء عبر البريد الالكتروني.

يتوقع منظمو هذه الحملة أن يقوم نحو مليار شخص بالتصويت لاختيار العجائب السبع الجديدة وذلك حتى العام 2011، أكان عبر الهاتف أو الإنترنت. وتتولّى لجنة مؤلفة من 21 خبيراً تشكيل لائحة بـ21 موقعاً مرشّحاً تتبارى على النهائيات ليتم من بينها انتخاب عجائب الدنيا السبع الجديدة. وعبر الموقع الإلكتروني المخصص لهذه الحملة، تُملأ استمارة تحتوي معلومات عن اسم المشترك وبريده الإلكتروني، ليختار بعدها القارّة التي يريد التصويت لها، واسم مرشّحه الأبرز. كما يمكن لكلّ مشترك أن يختار التصويت لسبعة معالم مختلفة. هذه الطريقة بحسب ما يروّج لها الموقع تهدف إلى التعرّف على أماكن ومعالم طبيعيّة لا يعرفها كثيرون، وتساهم في اكتشاف جمال هذا الكوكب وتنوّعه. ولكل شخص فرصة اختيار سبعة مواقع يصوّت لها أو يصوّت لما يريده من بينها، ولا يحق له التصويت أكثر من مرة واحدة فقط.. على أمل أن تنال مغارة جعيتا ما تستحقه، ليس فقط من أصوات اللبنانيين، بل من أصوات محبي إبداعات الطبيعة حول العالم. وحبّذا لو عملت السلطات السياحية الرسمية المعنية على استغلال كثرة السياح الأجانب في لبنان خلال هذا الموسم، لتقوم بحملة إعلانية من شأنها التشجيع على زيارة المغارة، مع تخصيص أيام تكون فيها تسعيرة الدخول إليها مخفضة، بما يدفع جمهور السياح العرب والأجانب لزيارتها. ولا شك أن مجرد الزيارة ستكون كافية لدفع الزائرين إلى الإدلاء بأصواتهم لصالح هذه العجيبة الطبيعية الرائعة في المسابقة العالمية الجارية حتى العام 2011، فتصبح مغارة جعيتا "رسمياً" من عجائب الدنيا السبع.

لطالما كان الرقم "7" شديد الخصوصية في الثقافات البشرية المتنوعة منذ فجر التاريخ. ولعل "فيلون" البيزنطي كان أول من أعلن عجائب الدنيا السبع في العام 200 ق.م. وبعد أكثر من ألفي سنة على ذلك، لم يبق من عجائب تلك اللائحة إلا أهرامات الجيزة في مصر. في العام 2007 جرى اختيار عجائب سبع جديدة، وقريباً سيتم اختيار عجائب سبع أخرى، على أن تكون كلّها من إبداعات الطبيعة، من دون أيّ تدخل لليد البشرية. وعلى امتداد كل العصور ظلّ الرقم 7 محافظاً على رونقه، وعند كل اختيار يكون حاضراً بسحره الذي يضفي البهجة. ولهذا الرقم قصة طويلة مليئة بالجاذبية والغموض.
فالإنسان يستطيع أن يتذكّر 7 أشياء، بحسب "جورج ميلر" أحد علماء النفس الذي اعتبر في نظرية "الرقم 7 الساحر" أن الذاكرة القريبة تستطيع تذكر 7 عناصر، حتى أن الأطفال يتذكرون سبعة أرقام، أحرف، وكلمات بعد قليل من الجهد.
وجاء في الأسطورة الشائعة في حضارات كثيرة أن أمنياتنا الصغيرة لا تتحقق إلا بـ7 حصى تلقى في الماء. كذلك فإن البحار سبعة، والأرض تحت جنة سابعة لا يطأها إلا الفرح.
ثم إن هناك سبعة أيام الأسبوع، والتي كانت كافية لخلق الكون، وأبواب النار هي سبعة. أما العين المجردة فيمكنها رؤية سبعة كواكب في النظام الشمسي. والإنسان يملك سبعة عظام في الرقبة، وثمة في الرأس سبعة ثقوب. ولا يمكن تجاهل أن عدد أطياف الضوء (التي تظهر في قوس القزح) هو سبعة، وعدد صفوف العناصر في الجدول الدوري للكيمياء والمعادن الرئيسية للأرض هو أيضاً سبعة. وفي الموسيقى الرقم 7 يمثل عدد النوتات وفقاً للمعايير التقليدية الغربية، وهناك في حكايا الجدّات الأفعى ذات الرؤوس السبعة، والقطة صاحبة الأرواح السبع...
وقد خصصت مختلف الديانات والثقافات مكانة خاصة لهذا الرقم، حيث إن هناك سبع طبقات للحياة في الديانة اليهودية، وسبعة أسرار عند المسيحيين، كما وإن طواف المسلمين حول الكعبة يكون لسبع دورات، وعدد الجمرات التي ترمى على الشر بعد الطواف هو سبع. ويحكى عن فضائل سبع أساسية، ومقابلها ذنوب سبعة. كذلك فإن بوذا في سيرته الإيمانية لدى أتباعه مشى سبع خطوات عند ولادته. والمصريون القدامى رأوا في الرقم 7 رمزاً للحياة الأبدية، أما الأساطير اليابانية فتذكر سبعة آلهة محزونين. ولكي تصل الروح إلى الخلاص حسب الهندوسيين، يجب أن تمر بسبع مراحل، ونجد في الحياة الهندية سبعة مستويات للوعي.
..هذه صفحة يسيرة من سيرة هذا الرقم الساحر الذي على شرفه يتم اختيار عجائب الدنيا. وعلى أمل أن يتسنّى لمليارات البشر السبعة أن يتمتعوا بمشاهدة عجائب مغارتنا اللبنانية، جعيتا، ليطمئنوا ويصوّتوا لإدراجها ضمن لائحة العجائب السبع.. ننام ملء جفوننا مطمئنين إلى أن مغارتنا الفريدة، وبصرف النظر عن أيّ شيء، هي قبلة عجائب الدنيا.
مغارة جعيتا جوهرة لبنان ويجب أن تكون كذلك لكل البلاد
ردحذف