19‏/10‏/2009

النساء والوقت


نحن النساء العاملات لدينا طريقة خاصة لمصادقة الوقت، نحاول الممكن وأكثر للتحكّم بجنونه. في الطريق إلى العمل حيث الزحمة تصل الى ذروتها، نتجلّى بأبهى حلّة ونشنّ سباقاً خاصاً تدور أحداثه في سيّاراتنا العزيزة التي تحوي كل شيء.


نخرج من المنزل صباحاً، محمّلات أكواباً من قهوة أعدّت على عجل، عدّة العمل والحقيبة النسائية التي تصلح للسفر. في المصعد وأمام المرآة، نسوّي أطراف شعرنا شبه التالف بعد ليل مسكون بالأحلام. ما إن نهتدي إلى تسريحة مقبولة حتى تبحث عيوننا عن سيارتنا المركونة في آخر خط من موقف السيارات. نفرح بهذا التعويض عن رياضة صباحية. ندير المحرّك في انتظار أن نقشّر عنه البرودة، نثبّت حزام الأمان فقط لأن وزير الداخلية بكاريزميته المحببة، استطاع إقناعنا بذلك، نحن الجنس اللطيف، وننطلق.
المنعطف الأول مخصص لدهن الوجه بواقي الشمس. هكذا حدّثنا طبيب الجلد الذي يحاول المحافظة على بشرتنا من كائنات غير مرئية. الطريق الذي يفصل المنزل عن أول تقاطع، خاص بكحل العين وأحمر الشفاه. وإن اضطر الأمر لتنظيف الأذنين أيضاً، فهذا هو الوقت الأكثر هدوءاً قبل الغرق في نهر من الزحمة الفوضوية. الوصول إلى أول إشارة سير، يحتاج إلى أغنية خاصة. وبما أن أغاني فيروز تنقرض قبل حلول الساعة السابعة صباحاً، يبقى أن نخضع للانتداب الفرنسي مجدداً ونستمع إلى لحن هادئ يمتصّ كل محاولة هستيريا.
إشارات السير مزاجية إلى حد لا يوصف. قد تتوقف عن العمل كلياً أو يبقى الضوء الأصفر وحيداً في ومضات تنبّه الجميع إلى وجوده في حالة توقف موقت. أما إن كانت الأمور على ما يرام، فقد يضيء الأخضر في الخط الأول دقائق عدة، بينما الخط الثاني لا تنقضي الدقيقة فيه حتى يعود إلى التوقف. إنّه لسرّ عظيم، علينا الاجتهاد كثيراً لاكتشافه. مراقبة هذا الإعجاز، فسحة للاستمتاع بالقهوة مجدداً قبل الوصول إلى العمل. نتأكد بعدذاك، من لمعان أسناننا البيضاء لأننا قد نحتاج لابتسامتنا رداً على أكثر من سؤال.
بين إشارة وأخرى حكايا كثيرة، مثل القيام بعملية حسابية لمعرفة ساعة الوصول في حال صحّت التنبؤات، ودائماً نصل متأخرات خمس دقائق مهما حاولنا، فدورة الزحمة تخدع كل الحسابات. قد نقوم أيضاً بقراءة إحدى المجلات أو الكتب المرمية في المقعد الخلفي، أو قد نراجع مهامنا لهذا اليوم الجديد، ندقّق في المفكّرة ونخطط كيف يمضي بنا هذا النهار.
العودة إلى المنزل لا تختلف كثيراً. بعد الظهر أسوأ، فالزحمة تتضاعف. في كل ساعة خرجنا يكون موسماً لهروب ما: تلامذة المدارس، موظفو المصارف، عمّال الشركات. الأمر يتشابه. نحن فقط نختلف، منهكات، وجوهنا مصابة بنكسات تبرّج، تجاعيد تنبت فجأة حول العينين لكننا نخفيها خلف نظارات سوداء عريضة، نسوّي أحمر الشفاه لنحافظ على ما تيسّر، ونستعدّ للرحلة نفسها.
نستبدل القهوة بشراب بارد وطعام خفيف، نختار الأغنيات عشوائياً، نقلّب المحطات، وأينما يحط الرحال بنا نندمج في الحالة. نتحوّل كائنات يمكنها أن تفعل أي شيء لتجنب السقوط في مستنقع الانهيار. نجري اتصالات متأخرة، نتواصل مع معارفنا كنوع من التعويض الذاتي، نقوم بحسابات للمصاريف حتى انقضاء الشهر، نتسوّق من خلال النظر إلى اللوحات الإعلانية المتناثرة على جنبات الطريق، نختار ما نريد ونسجّل أرقاماً وعناوين في مفكّرتنا. هذا كله كي نُشعر الوقت أننا لم نُهزم أمام الزحمة. إنه هذا الشعور بالتفوّق.
الإشارات نفسها، تقاطعات تحمل ذكرى الصباح. نصل إلى المنزل وبعد أن نركن السيارة في الخط الأخير نفسه، نشتم الحذاء وكعبه العالي الذي سرعان ما نخلعه عند وصولنا إلى عتبة المصعد. ندخل، نفكر للحظة في العمر، نختار الطبقة المقصودة، وندير ظهرنا للمرآة




النهار اللبنانية
الإثنين 19/أكتوبر/2009


هناك تعليقان (2):

  1. صحيح
    الحياة سباق مع الوقت
    ركص بركض

    ردحذف
  2. أحببت تفاصيل هذه الأيام و فوضيتها و ووتيرتها المتكررة حتى أدق التفاصيل. دقيقة في انتباهك اليها لكأنك جرّاح بيده مشرط. أحب هذه الأيام التي تشغلنا حتى نسيان الوجع، أحب هذه الأيام التي تستسلم للحركة الدائمة و قلما تتوقف لتحسينات طفيفة هنا و هناك...و أحب تلك اللحظات النادرة التي ندير فيها ظهرنا للمرآة و نذهب حفاة الى مساء هادئ، ننشغل بتعب الجسد عن تعب الرأس، ننشغل بالسباق مع الزمن عن الانتظار. 

    ردحذف