


مهنة التمريض تعود إلى عصور قديمة، مارسها الرجال والنساء على حد سواء، لم تكن منفصلة عن الطبابة، إلا أنها تطورت مع الزمن وأصبحت مهنة طبية مستقلة، وضعت لها قواعد وبرامج تدريبية. مهمة الممرضة لا تقتصر فقط على خدمة المريض والاهتمام بنظافته، بل هي مهمة أسمى، ترى إلى تثقيف المريض قبل خضوعه لعملية جراحية، وإرشاده للوقاية من حدوث مضاعفات طبية وحثّه على الالتزام بالعلاج الموصوف، كما أنها تساعد في تشخيص المرض وتقديم الإسعافات الضرورية في انتظار الطبيب المختص، وهي تكون مسؤولة عن 7 مرضى خلال مناوبتها (لا أكثر) وإلا تحوّل الأمر إلى فوضى وتقصير يؤثران على راحة المرضى. والممرضة لا يحق لها وصف الدواء حتى لو كانت متأكدة من ذلك، إذ إنّ الطبيب هو وحده من يقرر العلاج الواجب اتباعه.
قلة من الرجال تخوض هذه التجربة، وكأن الصورة المطبوعة في أذهان المجتمعات العربية الشرقية هي أن المهنة تتطلب واجبات تقوم بها المرأة في المنزل. تبلغ نسبة الممرضين في لبنان 18% من أصل 8132 عضواً مسجلين في النقابة وذلك بحسب إحصائيات نقابة الممرضين.
من المشاكل التي تواجهها هذه المهنة اختلاف مدارس التمريض في لبنان، فهناك الجامعات والمعاهد الحكومية، وتلك الخاصة، كذلك هناك اختلاف واسع في المواد المدرّسة بين جامعة وأخرى. كما أن فوارق كثيرة تنعكس سلباً على المهنة والعاملين فيها، سواء في الرواتب أو الكفاءات العلمية أو حتى المعاملة. فالمستشفيات الكبيرة يصل فيها راتب الممرضة إلى 1000$ شهرياً، في حين أنه يهبط إلى 500$ في مستشفيات أخرى، إضافة إلى مستويات المعاملة المتفاوتة الذي يولّد غبناً وشعوراً بعدم المساواة بين زملاء المهنة الواحدة.
فترة التدريب هي الأصعب لأنها الإحتكاك الأول مع واقع هذه المهنة، والإختبار الحقيقي للقدرة على التحمل. العمل الميداني مختلف كثيراً عن المواد التي تدرّس. كذلك هناك مسؤولية كبيرة تجاه إنسان قد يفقد حياته في حال أخفقت الممرضة. مريض يبصق دماً، امرأة لا يمكنها الدخول إلى دورة المياه بمفردها، قيء ملقى أرضاً… صور لا يمكن تخيّلها على مقاعد الدراسة، لكنها أقل ما يمكن مواجهته عند رؤية إصابات خطيرة وصولاً إلى التعاطي أحيانًا مع أشلاء. وفي هذا السياق تقول إحدى الممرضات: "كنت أصاب بالدوار وأسقط أرضاً فاقدة الوعي مع كل حالة جديدة إلى أن أصبح الوجع أحد فصول يومياتي". ولكن الفترة الأولى رغم جديدها القاسي إلا أنها غالباً ما تكون مفعمة بالحماس الزائد والتمسك بهذه المهمة الإنسانية.

ثمة شكاوى كثيرة ضد نقابة الممرضين في لبنان، فالممرضون يعتبرون أن وجود نقابتهم لا يُلحظ إلا خلال فترة الانتخابات وعند تسديد رسم الإشتراك السنوي والذي يبلغ 100$ في العام، في حين أن المطلوب منها أكثر من ذلك بكثير، وأوله توحيد شهادات التمريض (BT- TS- LT- BS ).
هناك معاهد غير مرخص لها، ومواد تدرس في جامعات ويتمّ التغاضي عنها في أخرى. كما أن النقابة مطالبة بمتابعة أي مشكلة قد تقع داخل المستشفى بين الممرضة وإدارة المستشفى، ويجب توحيد الرواتب ووضع معيار لمحاسبة المستشفى والممرض في حال أخطأ أحد من الطرفين. وتقول ممرضة أخرى: "الأخطاء متعددة وتحصل، والمحاسبة ليست كما يجب، عندما يخطئ الممرض في تقديم علاج لأحد المرضى ويسبب بأي مشكلة جسدية، عليه أن يحاسب، وليس كما يحصل في لبنان، بلد الوساطات، فيتم التستّر على الأخطاء بأن ينقل الممرّض إلى مستشفى آخر وبداية جديدة".

ككل مهنة، هناك من يتعاطى مع مهنة التمريض على أنها مجرّد وظيفة. فهناك ممرضات لا يهتممن بالمريض كما ينبغي أثناء فترة مناوبتهن، فيما بعض المستشفيات تعاني من قلة النظافة والمتابعة، وهذا كله يؤثر سلباً على حالة المريض ونفسيته. وثمة من يُغلّب هدف الوصول على حساب طبيعة المهنة، كما أن بعض الزملاء يستفيد من وجود شخص جديد لديه الحماس ولا يعرف حقوقه جيداً، ليلقي عليه كل العمل ويسلمه مهام غير مهامه، وبعض آخر لا يتمم واجباته خلال فترة مناوبته، فيؤثر ذلك سلبًا على من يستلم المناوبة من بعده.
"الصباح يبدأ بهدوئه المعتاد إلى أن يمتلئ بمطالب وشكاوى وأشخاص غير متفهمين لوضعهم، رافضين لما هم عليه، ويضعون جزءاً من اللوم على القسم الطبي، وكأن المطلوب من هذا القسم صنع المعجزات". غالبية أهل المريض، لا يقدرون الوضع النفسي الذي يعانيه مريضهم، ويتناوبون على استعراض اهتمامهم بتوزيع النصائح على الممرضة، وقد يصل بهم الأمر إلى اعتبارها خادمة، كما تقول إحدى الممرضات وتضيف: "كأنهم يدفعون لي لقاء جلب كوب من الماء أو مرافقة المريض إلى دورة المياه، يستفيدون من خدمات ممرضة يجب أن تكون رهن الأوامر بنظرهم".
كل عامل يقدم تضحيات، لكن المهن التي تتعاطى مع الحياة الإنسانية تكبر فيها المسؤولية، والتمريض إئتمان على الحياة. المناوبة الليلية هي الأصعب، فمعظم المرضى يتعبون في الليل، الوحدة تزعجهم أكثر من المرض نفسه أحياناً. ومن المشاكل التي تعانيها الممرضة علاقتها بالأطباء لأنها على تواصل دائم معهم. الطبيب المقيم يكون بحاجة إلى الممرضة أكثر ليتأقلم مع الجو، ولكن بعد أن يترقّى، يتعالى عليها وينصرف إلى طموحه.

أقسام المستشفى مختلفة، ولكل منها طابع خاص، ولكل حالة مرضية خصوصيتها، لكن الوجع والألم متشابهان. إنها رائحة الموت والتمسك بالحياة. أطفال، نساء، شيوخ، وأمراض لا تحصى... ومعظم المرضى يرفضون الإستسلام، يتمسكون بالحياة ويعايشون الألم. لكن كل صباح يحمل معه بداية جديدة، وقد يكون بالنسبة للممرضة تكرار للروتين اليومي، وصراع مع الأمل بالنسبة للمريض.
لا بد من علاقة تنشأ بين الممرّض ومريضه، وخصوصاً أصحاب الأمراض المستعصية كمرضى السرطان، لأنهم يمكثون طويلاً في المستشفى، وتكون حالتهم الصحية في تراجع دائم، ما يفرض الإهتمام بهم ومراعاتهم بشكل مختلف عن الآخرين "ليس شفقة بقدر ما هو تخفيف من وطأة مصيبتهم، فالحالات تتشابه، يذوبون أمام أعيننا، يتساقط شعرهم وتنتفخ بطونهم، يفقدون حياتهم شيئا فشيئاً أمام أنظارنا ولا يمكننا فعل شيء إلا معاملتهم بأفضل ما يكون".
وفي كثير من الأحيان يكون العلاج تأجيل للموت لا أكثر، وتكون العملية الجراحية غير مشجعة. أسابيع ويفارق المريض الحياة، وقد يتساءل كثيرون لماذا هذا العذاب كله والنهاية واحدة، إلا أن لحظات الحياة رغم كل بشاعتها، تظل مغرية أكثر من فكرة الرحيل. هذه هي طبيعة البشر.
يمنع على الممرضة قبول هدية أو بدل مادي لقاء أتعابها، كما أنها تمنع من تلقي الضيافة. هناك بعض الأهالي يحاولون نسج علاقات مع الممرضة بهدف التحبب إليها، ونساء كثيرات يبحثن بين الممرضات عن زوجات لأبنائهن. أحياناً يطلب من الممرضة تأمين خدمة ليلية "منامة" لمن يلازم المريض، وهذه أمور ترفضها سياسة المستشفى. وعموماً توصى الممرضات بعدم التقرب كثيراً من المرضى وعائلاتهم لتفادي هذه الحالات. المشاكل الشخصية يمكن أن تتسلل إلى العمل مهما حاولت الممرضة أن تعزل حياتها الشخصية عن المهنية، لكن تراكم المشاكل لا بد منه، فالبيئة التي تحيط بالممرضة ليست دائماً مريحة، ولا بد لحزنها أن يظهر.
أما أجمل اللحظات فيمكن قطفها في قسم الولادة، حيث ترتسم الفرحة على وجهي أم وأب ينضحان بالسعادة. الأقسام الأخرى ربما تكون أكثر بؤساً. لكن عندما يكون الرهان على جراحة صعبة وشاقة، ثم تتحسن أحوال المريض ليخرج بمعجزة، تتكون لحظة جميلة وكأن هناك يدًا خفية ما زالت تصنع المعجزات وترسم الفرح.
تخبرنا إحدى الممرضات قائلة: "هناك مشاهد مأساوية لا تنسى، منها شاب قضى بحادث سيارة ولم يكن الطبيب قد وصل بعد، ونحن كممرضات لا يمكننا الإبلاغ عن الوفاة. شغلنا أنفسنا بـ"معالجة" الميت، وقمنا بالإجراءات الاعتيادية كي تظن والدته أنه ما زال حياً، على أمل أن نهبها بعضاً من الوقت قبل أن تتلقى الفاجعة"... كثيرة هي الحالات التي تلازم ذاكرة الممرضة، وتتعلق بمصابين يعيشون معها أسابيع وأشهر لتصبح قصصهم من تركيبة حياتها اليومية، ثم فجأة يرحلون. إنها فاتورة المرض ويجب تسديدها مهما تأخر الوقت.
حياة الممرضة، تجربة متكاملة. عطاء ومسؤولية، إلتماس للألم ومحاولات دائمة لزرع الأمل في عيون أطفأ بريقها الوجع. في مكان ما يحدث تغيير، لمسة شفاء، مساعدة محتاج، تلبية صرخة استغاثة، تخفيف ألم، والأقسى من ذلك إبعاد شبح الموت لأطول فترة ممكنة.
مكافأة هذه المرأة المعطاءة لا يحتاج كثيراً، كلمة شكر وتقدير تكفي لمسح التعب عن وجوه تتبرّج كل صباح... بالعطاء.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=98008#
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق